سُلطان بن خلفان اليحيائي

 

إهداء وطني

إلى من تمسكوا بجوهرِ العُماني الأصيل، فلم تغوِهم المظاهرُ البراقة، ولم تُبدلهم موضاتُ الزمان، وبقوا كما أراد الله لهم: أوفياء للأرض، صادقين مع الضمير، نزهاء في اليد والفكر والسلوك.

بين نعمةٍ ونقمة

لم تعد المسافات تُقاس بالكيلومترات، بل بثوانٍ تُرسل فيها صورة أو تغريدة.

ولم تعد المعرفة حكرًا على المتعلمين، بل أُلقيت في الأيدي كما يُلقى الماء، حتى غدا الهاتف قطعةً من الذراع لا تُفارق الكف.

طفرةٌ تكنولوجيةٌ هائلة قلبت معايير الوعي، وفتحت أبوابًا من النور، لكنها جرت خلفها ظلالًا طويلة من الغفلة والانبهار.

فما بين شاشةٍ تُعلم وأخرى تُضلل، وقف الإنسانُ محتارًا.

لقد نقلت التقنية وعيًا متسارعًا ومهاراتٍ لم تكن ممكنة قبل عقدٍ واحد، وقربت المسافات بين المدن والولايات، وأتاحت فرصًا للتعلم والعمل والتواصل.

لكنها في المقابل فتحت نوافذ لا تنام، تُطل على عالمٍ يعج بالتفاخر والمقارنات والسباق المحموم نحو المظاهر.

تغيرت النفوس، واشتد التوتر، وضاقت الصدور، لأن كل أحدٍ صار يقيس نفسه بما يرى، لا بما يملك من جوهرٍ وقيمة.

نرى اليوم من يُقيم عرسًا يُرهق به نفسه بالديون ليُظهر الثراء، ومن يُبدل مركبته كل عام طلبًا للمكانة، ومن يُنفق وقته على تصوير مائدة الطعام أكثر من الجهد الذي بذله في كسبها.

كلها صورٌ تُخبرنا أن المظاهر تمددت حتى غطت على القيم.

الركض قبل الحبو

صرنا نريد كل شيء دفعةً واحدة؛ نطالب بنتائج بلا مقدمات، وبمجدٍ بلا تعب، وبشهرةٍ بلا عطاء.

تسللت المقارنات إلى بيوتنا، فصار الشاب يُقارن نفسه بمن يراه على الشاشة، وتقارن الفتاة حياتها بما تبثه المؤثرات في منصاتٍ لا تعرف إلا البريق.

نركض قبل أن نحبو، ونخطط قبل أن نتعلم كيف نفكر، ونقيس أحلامنا بأوهامٍ رقمية تُزين لنا العجز في صورة النجاح.

المظاهر وزعزعة القيم

المبالغةُ صارت سِمة العصر؛ في الملبس، والمناسبات، واقتناء ما لا نحتاج، وفي التجميل، والمساكن، وحتى في الكلام باستخدام مصطلحاتٍ أجنبيةٍ بلا داعٍ.

أصبح البعض يُنفق ما لا يملك، فقط ليُقال عنه إنه “يملك”، ويقحم نفسه في دوامة القروض والمنافسات الفارغة.

والأخطر أن التباهي تسلل إلى القيم ذاتها؛ فاختلطت النزاهة بالمنفعة، وتقدم المظهر على الجوهر، وارتفعت الرشوة في السلوك اليومي قبل أن ترتفع في المعاملات، وتراجع الصدق أمام الكذب، والنزاهة أمام الفساد، حتى غدت “المصلحة” شعار المرحلة، لا “الأمانة”.

الإنسان بين لقمة العيش وصخب المظاهر

يعيش الإنسانُ العُماني اليوم بين ضغطِ المعيشة وصخبِ المظاهر؛ فهو يُكافح بكرامةٍ ليصون أسرته وسط موجات الغلاء، بينما يرى حوله من يُنفق ويتباهى بما لا يملك، كأنهم في عالمٍ آخر لا تمسه أوجاع الناس.

إن هذا التفاوت يولد شعورًا بالمرارة، حين يغدو التفاخر مقياسًا للنجاح، ويُقدم البريق الخادع على حساب الجد والاجتهاد.

تداعياتٌ تمس النسيج الوطني

كل انحرافٍ في القيم يترك أثرًا على الوطن، لأن المجتمع إذا فقد وجهته الأخلاقية فلن تُعيده القوانين وحدها.

لقد بدأنا نرى ظواهر دخيلة: محاباة، ومجاملاتٍ في غير موضعها، وتعطيلًا للكفاءات الصادقة، وتسلقًا للمناصب على أكتاف العلاقات، وجرأةً على الحق لم تكن مألوفة في بيئتنا العُمانية الأصيلة التي تربينا فيها على البساطة والرقي في المواقف.

من باب العدالة لا التعميم

ومن الإنصاف أن ندرك أنَّ هذه المظاهر والتجاوزات لا تمثل كل أبناء الوطن، فالمجتمع العُماني ما زال يحتفظ بكنوزه من القيم والحياء والأصالة.

لا يزال بيننا من يعيش ببساطةٍ وكرامة، لا يُباهي ولا يُفاخر، بل يعمل بهدوءٍ وإيجابية، ويخدم وطنه بضميرٍ نقي.

ولذلك فإنَّ العدالة الاجتماعية تقتضي ألا نُحمل المواطن البسيط أوجاع الحياة فوق طاقته، وأن نحميه من الضيم والإجحاف في حقوقه، فهو في النهاية عصبُ الوطن وقلبُه النابض.

بين الزحام والبصيرة

لسنا ضد التطور، ولا ضد الطموح، ولكن التقدم الحقيقي لا يكون بالمظاهر، بل بالعقل والوعي والانضباط.

لقد انشغلنا بالزحام الرقمي حتى أضعنا صوت العقل، وتماهينا مع الصور حتى نسينا جوهر الإنسان.

والواجب اليوم أن نعيد ترتيب سُلم القيم في عقولنا، وأن نُدرب أبناءنا على الصبر لا على الشهرة، وعلى الإتقان لا على المظاهر، وعلى الفعل لا على القول.

ومضة وعيٍ أخيرة

الوطن لا يحتاج إلى مزيدٍ من “المتأثرين” بالسلوكيات الخاطئة، بل إلى مزيدٍ من “المؤثرين” بتطبيق المبادئ الإسلامية والتخلق بالأخلاق الفاضلة.

نحتاج أن نحدد وجهتنا الصحيحة نحو أهدافنا الحقيقية لا الخيالية، وأن نعلم أبناءنا أن القيمة في ما تُقدمه لا في ما تُظهره.

ولنمضِ نحو مُستقبلٍ مشرق، ولنجد الوقت للإنصات والتفكر، وألا ندع زحمة المظاهر تبتلع صوت العقل وحكمته.

شاركها.