“انبعاث الحرف”.. تجربة الفنان محمد الصائغ

د.صبيح كلش **
حين وصلت إلى مدينة صور مطلع عام 2000 للقيام بمهمة تدريس الفنون “التعبيرية” في كلية التربية في صور، أثار انتباهي اسم تردد كثيرًا في الوسط الثقافي. لم يمض وقت طويل حتى التقيته هناك: الخطاط محمد الصائغ، فنان هادئ الطباع، مشغول بتجربة فنية مختلفة آنذاك، يغرف من معين الحرف العربي ويعيد تشكيله بلغة بصرية جميلة تثير الدهشة والأسئلة في آنٍ واحد.
ولد عام 1960 في مدينة صور، حمل معه منذ بداياته الفنية ذاكرة المدينة البحرية وتكوينها الثقافي الغني بالتراث العُماني الأصيل، لا سيما إرث الحرف العربي. غير أن ما يميز تجربته ليس مجرد الاستلهام من الخط العربي، بل قدرته على إدخاله في حوار مفتوح مع الفن التجريدي الحديث، ليغدو الحرف لديه كتلة مرئية نابضة لا نقرؤها فحسب، بل نشاهدها ونحسها ونتأملها.
من خلال زياراتي للمعارض السنوية للخط العربي التي تقيمها الجمعية العُمانية للفنون التشكيلية، لاحظت لوحات الصائغ وهو يعيد صياغة الحروف بطريقة تمنحها استقلالًا بصريًا، فهو لا يكتفي بالدلالة اللغوية، بل يتجاوزها إلى بُعد رمزي عميق. الحرف يتحول إلى بناء تشكيلي، والحركة التي هي جزء من قواعد الخط الكلاسيكي، تصبح في أعماله إيقاعًا داخليًا في اللوحة.
حسب متابعتي، أن الصائغ يميل إلى خط الثلث، لما فيه من جلال وانسيابية، لكنه لا يتردد في استخدام الخطوط الأخرى: الكوفي، الديواني، الجلي ديواني، وحتى خط التعليق، ليس استعراضًا لمهارته، بل محاولة لتطويع الخط في مساحة فيها توازن بين القواعد الأكاديمية والانفعال الحر.
سألته عن الحرف الألف، الذي يرد كثيرًا في تكوين لوحاته. أجابني بكل ثقة: إنه رمز للهيبة والقوة والسمو، أراه معبرًا عن الرجولة، يحمل صلابة السيف ورقة الروح.
هذه النظرة الرمزية تنعكس في العديد من أعماله التي تتخذ من الحرف بؤرة بصرية للانطلاق نحو مضمون أوسع، يتصل بالهوية والانتماء والتاريخ والموقف الإنساني.
في أعماله الأخيرة، بدا واضحًا انحيازه لقضايا الأمة، لكن بأسلوب بعيد عن الشعاراتية، ففي لوحاته عن “غزة” لا نرى مشهدًا صريحًا، بل تأويلًا بصريًا حادًا؛ حيث تتحول حروف مثل “الهاء والعين والواو والألف” إلى رموز لصوت الاحتجاج والفقد. اللوحة هنا تنبض بموقف وشعور إنساني عظيم.
ما يميز تجربة الصائغ هو قدرته على التجديد، فبرغم انشغاله الدائم والمتكرر بالحرف، لم تتشابه لوحاته، إذ يبتكر في كل مرة تكوينًا جديدًا للنص الواحد، مع الحفاظ على الخصوصية التعبيرية لكل عمل. كما أن الألوان في لوحاته، لا سيما الأزرق والأخضر، ليست مجرد تدرجات جمالية، بل عناصر دالة تنبع من ذاكرة بصرية إسلامية، يعيد توظيفها برؤية معاصرة.
أربعون عامًا من الممارسة لم تفقد الصائغ حماسته، ولا وضوح رؤيته. في كل لوحة له ثمة توازن دقيق بين الموروث والابتكار، بين الشكل والمعنى، بين الحرف واللون. وهنا، تتجلى خصوصيته بوصفه أحد أبرز الخطاطين التشكيليين المعاصرين في سلطنة عُمان والخليج.
إن تجربة محمد الصائغ تستحق أن تُدرس، كجهد فني يسعى إلى إعادة بناء العلاقة بين النص البصري والهوية، في عالم تتآكل فيه الرموز ويشتد فيه البحث عن الثوابت.
** فنان وأكاديمي مقيم في مسقط