بين ابن عربي وأدونيس | جريدة الرؤية العمانية
د. ميساء يوسف علي
تُعَدُّ علاقة الإنسان بالله علاقة مفتوحة على الأفق اللامتناهي، إنها أشبه بمحاورة تقتضي التجاوز الخلّاق، وإبداع معرفة تنطوي على عناصر حداثتها باستمرار، فيها من الإشارة والإيحاء لرفض نظرة العين الواحدة وعدم الرضا بأحادية الذوق. إنّ الحديث عن ابن عربي وأدونيس رغم تباعدهما بقرون زمنية له مبرراته المنطقية والتي تحتل القيمة المعرفية لكل منهما مكان الصدارة، بالإضافة إلى موقفهما المعرفي حيال طبيعة العلاقة بين الألوهة والأنسنة وانسحابها على الوجود بأكمله، والتعبير عنها بصور عرفانية وأبستمولوجية وأنطولوجية وقيمية وأدبية تتضمن تحدي المفارقة(مفارقة الألوهة للإنسان) التي كرستها الطبقة الدينية وانزياح المركزية الدينية والتراثية، والتشكيك بكل ما هو ثابت ومطلق من خلال ثورة مفاهيمية جديدة تستوعب أهمية التناقض والاختلاف والصيرورة كأُسس جوهرية لفهم الوجود والمعرفة، حيث تبرز معالم الحداثة واللامركزية في نصوصهما كدور أساسي في بناء الإنسان، ما يجعل ابن عربي وأدونيس ظاهرة روحية إنسانية عابرة للزمان والمكان، تجتمع فيها مظاهر الإبداع، وتعبِّر عن أصالة الروح وَوعيِها المتطوِّر .
أحدث ابن عربي رائد التجديد والحداثة الدينية أكبر انقلاب في تاريخ الفكر العربي وتحديداً الصوفي، وذلك من خلال النهوض بالتصوف إلى أقصى درجات الحرية الفكرية، حيث برهن على أن التصوف وحده القادر على تلبية حاجات الروح والعقل معاً، المنفتح على عالم الرؤيا والزمان واللامتناهي، وإلى مثل هذا تنبّه أدونيس شاعر الحداثة العربية الذي نظر إلى التصوف لا كحدث، وإنما كقيمة أدبية واعتبره طريقاً للولوج إلى العالم اللامرئي، لذلك أكدّ على أهمية التفاصيل وارتباطها بجدلية الجزء والكل، وجدلية الأجزاء فيما بينها، طريقة لفهم الحقيقة كاملة.
فالكشف الذي حَظِيَ به ابن عربي له ما يقابله عند أدونيس في سبر أغوار الكتابة الإبداعية التي تعلن عن تفتُّحها في الحضور الإبداعي المستمر، عندئذٍ تصبح الكتابة أو الشعر كائنا حيا تنطق بلسانه، وتقول ما ينبغي قوله، فتخلق هُوية جديدة تختفي فيها الحدود بين أنواع الكتابة التي تصبح ثرية غنية تكشف عن خَلْقِ القارئ للنص، وتخلِق المعنى بعد أن كان المعنى يَخْلُقها.
رفض ابن عربي خلع رداء القداسة على المعارف السابقة، وتخلّى عن الإطلاق المتناهي والتحديد لما فيه من التقييد المعرفي، بذلك أسس لحداثة فكرية حيوية، فالله في نظره ليس مقيداً ولا مطلقاً، فقد تجاوز إله ابن عربي التنزيه والتشبيه، وارتفع عن كل الصور، وعاد إلى حالة اللاتحديد. وبذلك خالف ابن عربي معرفة الفيلسوف ومعرفة المتكلمين. في المقابل نتلمس الطيف المعرفي الحداثي لابن عربي في صورة الحداثة لدى أدونيس في وصفه المعرفة على اختلاف أنواعها بأنها وليدة اللحظة. وكان التأمل عنده خلقاً من نوعٍ آخر، إنّه إنتاج مالم يُقَال، وإبداع ما لم يُعَرفْ مِنْ قبْل. لكن التأمل يفضي إلى التأويل والانفتاح على المعاني التي لا تنضُب، إنه بوابة على اللامتناهي الذي يبطُن في الرمز الذي جعل ابن عربي منه حجاباً على فكره الحر، وستراً للمعنى الذي يضِنُّ به على من لا يستحقونه.
تبرز رمزية ابن عربي في توضيح العلاقة بين الألوهة والأنسنة من خلال تبادل الأدوار الأبستمولوجية ليتخطى المحظور الديني، والسماح لروحه أن تصافح المعنى الخفي من خلال لعبة الأدوار، فتارة تكون الأنسنة نافذة المعنى يلوح منها إيحاءً وإشارة، حيث تعكس معارفنا اللحظية عن الألوهة المرتسمة في صورة التجلي حقيقة سمو أرواحنا، بينما تكشف الألوهة عن نفسها في مرآة الإنسان فتمنحنا بُعداً روحياً ووعياً ذاتياً، وهذا الوعي الروحي هو فيض الألوهة التي تتفتح في صورتنا، وتبدع ذاتها في كل مرّة جديدة. بذلك يكون الخلق الإنساني المتجدد في مرآة الألوهة عند ابن عربي نظيراً للخلق الإنساني المتجدد في مرآة النص عند أدونيس، ما يجعل التواصل الفكري بين ابن عربي وأدونيس يتجاوز الحدود الزمنية والمكانية، فيعتلي صهوة الإنسانية في أبرز معالمها التنويرية الحداثية.
انعكس الفكر التنويري لابن عربي بالإيمان بالأقطاب المتعددة التي تعكس تنوع العقلية الفكرية، ثم أنّ تركيز ابن عربي على مفهوم القطب كونه يحمل دلالات رمزية صوفية تتسم بالغنى والتنوع المعرفي على الصعيد الأبستمولوجي. هذا التنوع المختلف لا يلغي المساواة، من هذا المنطلق كان وجوب إقامة الحوار الخلّاق بينها، وإحلال العدل بين الجماعات المنتمية لتلك التعدديات. فالحوارية التي تبناها ابن عربي مع تلك الأقطاب أفضت إلى إبداع أنساق فكرية لديه متنوعة تمثلت في الرمز والشعر والنثر. إذْ تمكن من استيعاب العقلية الجماهيرية على تنوعها بِحبٍّ ومساواة دون أن يخسر أحداً منها وبنفس الوقت توقّى كل عنف وتطرف معرفي أو ديني.
لكن إذا استبعدنا التجديد عند ابن عربي، ونظرنا إلى مضمون توجهه رأيناه يعكس مواربته المتعمّدَة للقول باللامساواة مع الآخر المختلف. فتكون معرفته تتضمن النقيض وضده معاً. لذلك لم يسلّم ابن عربي بوحدة العقل بمفردها ولا بوحدة الروح بل جمع بينهما، لأنه تنبّه إلى التنوع والغنى و الإبداع الحاصل من اجتماعهما، وقد عبّر ابن عربي عنه بمفهوم الفَتْح فقال: على قَدَرِ الهمّة…، فطاقات العقول مختلفة وطاقات الروح أيضاً، وكما تتباين كفاءات العلماء في الدراسة الظاهرية علواً وانفتاحاً وعبقرية هنا وجموداً هناك، كذلك تتباين كفاءات المتطهِّرين العابدين في الفَتح والكشف.
ما يجعل ابن عربي في تبني النقيض وضده أمراً متغلغلاً في كل فلسفته الصوفية، أمّا أدونيس لم يلجأ للمواربة بل كان صريحاً في كشف أكذوبة ديمقراطية الدين، حيث اعتبرها خدعة لا تتعدى كونها وَهْماً لاستمالة القطيع فكرياً واستباحة عقل الآخر بمفاهيم تسمح للأنا إحكام السيطرة . فالعدل يقرن بالمساواة لا التسامح، وإذا كان ولابدّ أن يقبل التسامح، فهو يرفضه تحت وصية الدين، وينحو به منحى إنساني يتضمن احتواء الآخر بكل تناقضاته بعقل منفتح على التغيير وإحياء الإنسان لا قتله، وبقلب وَسَعَهُ الله فكيف به لا يَسِعُ أخاً بالإنسانية؟!
أما الحب عند أدونيس جاوز به إلى المستوي الروحاني الذي يقتضي التشبه لدرجة التماهي في الآخر، فكل لقاء عاشقين هو لقاء روحي يمنح الحياة لكل منهما، هو انفتاح على الكون وأسراره لذلك كان للحب شبه النار حيث أننا نعيش النار بخبرتنا رغم عدم استمرارية فعل النار، يأخذ فعل الحب عنده فعل الإبداع الذي بتجاوز الحسي إلى عالم الروح فيَمنح العاشق رؤيا هي النور الذي به تنقشع الحجب وتشف ليرى مالا يمكن رؤيته.
لقد جعل أدونيس من الحب حالة عامة فهو حين يباشر اللغة يتماهى معها ويصبحان كياناً واحداً، حيث تنطق اللغة وتُبدِع الكلمة هذا هو النكاح الفكري والروحي الذي تحدث عنه ابن عربي الذي تحصل به المعاني المجردة والأرواح المعنوية، إنه التوجّه الإلهي لخلق صورة على مثال صورة الله بالنَّفخ ،غير أنّ هذا النكاح المعنوي يقتضي جعل المرأة صورة للألوهة الخالقة كونها المحبوبة، فيكون الانجذاب إليها من قبيل انجذاب الفرع إلى الأصل، ما يجعل المرأة مبدأ الوجود، وانجذاب المرأة إلى الرجل كونه زوج لها، والزوج يقتضي المشابهة، بالتالي وجبت المساواة بينهما على المستوي الأنطولوجي، لأن الاختلاف بينهما مردَّه إلى المستوى الأبستمولوجي لا الإنساني ولا الجنسي لديه.
أمّا المرأة عند أدونيس تعكس الاحتواء والعمق والانفتاح على سرّ الوجود والحياة بقوله:إذا ما بحثت عن الخالق، فاذهب إليه عبر المرأة، فهي النور الذي يصل السماء بالأرض، وكي نتوصل إلى جوهر الكون عليك أن تمر بالمرأة أي أن تمر بالحب.