محفوظ بن راشد الشبلي

 

يجتمع البشر في محاور وزوايا، سواءً أكانت سطحية أو شكلية أو حتى حقيقية، فيحصل بينهم تقارب فكري، وأحيانًا تقارب مشاعر وأحاسيس وبعض التوافق في الرؤى والتطلعات، ورُبما لا يشعر بها البعض ولا يعيها طرف عن آخر، ولكنها تولد في نفوس البشر، بلا إرادة منهم، من خلال معايشتهم، فتتقارب الأفكار، وربما تختلف في المنظور والشكل، وأحيانًا تفترق في محطات غير محسوبة وبلا وعي، وتبقى مركونة في جانب مُعين دون شعور وإحساس، حتى يحين موعد نبشها وتحريكها.

 

من بعض تلك المحاور، يوجد محور الألفة غير المحسوبة، وهي تأتي بالصُدف، فتألف النفس أُخرى دون سابق إنذار، فتتولّد من خلالها تقاربات في بعض المواقف والصفات التي يجد بها طرف توافقه مع آخر، فيُفضي ذلك التوافق إلى نوع من الثقة وصفة للأمان المُطلق، والذي من شأنه يكشف طرف للآخر عن أسرار لا يُفصح بها لغيره، وهُنا تأتي العاقبة غير المحسوبة بينهما.

تمضي الحياة في طيبٍ دائم ما دام التوافق باقيا بينهما، وتأتي بعدها لحظات يبرد فيها ذلك التوافق، ليشعر البعض بثقله غير المرغوب على الآخر، وأنه أصبح خارج دائرة اهتمامه، فينسحب عنه احترامًا لشخصه الكريم الذي لا يبتغي له سوى الخير، وبالمقابل إن لم يُبادر ذلك الطرف بالسؤال عن صاحبه الذي أوجد في داخله فراغًا كان يشغله بوجوده معه ويسأله عن سبب انسحابه؛ فإن ذلك مؤشر حقيقي بأن توافقهما وصل إلى مراحله الأخيرة وأن البُعد هو سبيل غايتهما جميعًا.

 

تدور بعدها عجلة الأيام، لتصل للشخص المُبادر بالانسحاب شكوى، فحواها تهديد ووعيد له من ذلك الطرف، ومضمونها تلك الأحاديث والأسرار التي دارت بينهما، والتي وُضعت حينها موضع الثقة العمياء والمُطلقة بينهم، ليجعلها سلاحًا يُهدد بها صاحبه!! فيصل الأمر للدهشة والسؤال عن تلك الشكوى بِكيف ولِما ولِماذا؟ برغم أنهما كانا على خير، وتوافقا وترافقا على خير، وانسحبا على خير، ولم تحدث بينهما أي خلافات ولا نزاعات ولا حتى عتابات، ويا لها من مفاجأة تتبعها مُصيبة.

 

فتصل فرضية الأمر للتساؤلات حول ما بدر من شكوى ذلك الشخص، هل دخل طرف ثالث بينهما وفي نفسه نوايا دنيئة لتصفية حسابات مع الطرف الأول، ووجدها فرصة للنيل منه بعدما أفشى له ذلك الطرف عن سِرّه الذي أودعه عنده ليجد بها ذريعة ضده؟ هل نفسية الشخص المشتكي دخلت بها وسوسة شياطين الإنس والجن؟ هل ذلك الطرف كان يختبئ في جلد ثُعبان جرجر بها صاحبه بالكلام ليكشف عن وجهه الحقيقي ويُبدل جِلدته لاحقًا؟ أم أن إفشاء الأسرار العميقة بين الصِحاب والأقارب والأحباب، أصبح ثقافة خبيثة للابتزاز وتشويه سُمعة الآخرين؟ أم أن الخُبث أصبح غاية في نفوس البشر ضد أصحابهم؟ أم ماذا في الأمر من خفايا وأسرار خارجة عن منظور الفهم والإدراك والاستيعاب؟

 

خلاصة حديثنا هو أنه قد أصبحنا في زمن لا يعرف الشخص صديقه من عدوّه، ومن حافظ لأسراره ومن مُفشيها، وتخلخلت فيه موازين الثقة في الآخرين، وأصبحنا نحسب لفضفضتنا ألف حساب قبل إبدائها للآخرين مهما كانت حسابات الثقة عالية معهم، فبعض النفوس تحتاج أحيانا للتفريج عن خلجات أنفسها لأقرب الناس إليها، ولكنها تنصدم بما هو أمرّ من غاية الفضفضة بحاجات خارجة عن المفهوم والحسابات، ويجب الحذر من كل كلمة ينطقها الشخص في محيطه وعالمه، فبعض البشر الذين وثقت بهم يعطونك أحيانًا دروسًا لا يُمكن أن تنساها، وحقًا مهما جَمعت وطَرحت برصانة تامة وبفكرٍ مُتقن تبقى هُناك بقايا متناثرة بين هُنا وهُناك يصعب عليك لملمتها مهما كُنت بارعًا في فن التدقيق والحسابات واللّه المستعان.

شاركها.