محمد حسين الواسطي **
يقول الله تعالى: “وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ” (الشورى: 30).
في خضم المآسي الإنسانية التي تشهدها غزة، ترتفع أصوات التشكيك والتساؤل عن العدل الإلهي ودور الله سبحانه وتعالى فيما يجري. هذه التساؤلات ليست جديدة في تاريخ البشرية، بل هي امتداد لسؤال وجودي واجهه الأنبياء والصالحون عبر العصور. لكنها تزداد حدة مع كل مأساة إنسانية، وخاصة عندما يكون المستهدفون هم الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ.
إن قضية «أين الله من غزة؟» ليست مجرد تساؤل عابر؛ بل تعكس أزمة فهم عميقة لطبيعة الحياة الدنيا وسنن الله في الكون. هذه الشبهة، بالرغم من خطورتها على إيمان البعض، تُمثل فرصة للمؤمن الواعي ليزداد إيمانه ويتعمق في فهم دينه، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾.
ومفتاح الفهم الصحيح للحياة هو إدراك طبيعتها كدار ابتلاء، لا دار جزاء نهائي. يقول الله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾. لو كانت الدنيا دار عدل مطلق لانتفت حكمة الآخرة، ولاختفت معها فلسفة الابتلاء بأكملها. فالحياة في جوهرها اختبار، والاختبار يتطلب تركيبًا معقدًا من الخير والشر، من الألم والفرح، من النصر والهزيمة.
المؤمن العميق الإيمان يتأمل حكمة الله في قوله: ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾، فالمصائب تخضع لنظام إلهي دقيق يفوق إدراك البشر. ولهذا فإنَّ من ظنَّ أن غياب النصر الفوري دليل على غياب العناية الإلهية، فقد خالف صريح القرآن الذي يؤكد: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾. هذه الآية الكريمة تلخص جوهر القضية: الله ليس غافلًا، بل محيط بكل شيء، يرى كل دمعة، ويسمع كل أنه، ويُحصي كل جريمة، لكن لحكمته سبحانه، قد يؤخر العقاب دون أن يلغيه.
ومن هنا يأتي المفهوم الأعمق للنصر الإلهي، فالنتائج الحقيقية تُحسب في الآخرة، لا في الدنيا وحدها، والانتصارات الدنيوية ليست المقياس النهائي للحق. يؤكد الله هذه الحقيقة بقوله: ﴿إِنَّا لَننصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾. ولعل في قصة أصحاب الأخدود عبرة بالغة؛ فقد أُحرق المؤمنون ظاهرًا وانتصر الظالمون مؤقتًا، لكن الله خلد ذكر المؤمنين وتوعد الظالمين بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ… فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ﴾.
ولا يقتصر الأمر على وعود الآخرة، بل إن التاريخ الإسلامي نفسه يشهد أن النصر الإلهي يأتي غالبًا بعد اشتداد المحنة، كسنة كونية ثابتة. قال الله تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً﴾. وكذلك النبي الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم الذي صُدَّ وعُذب هو وأصحابه ثلاثة عشر عامًا قبل أن يأتي النصر، فالتمكين يأتي دائمًا بعد الابتلاء، والنور بعد الظلام، والراحة بعد التعب. وفي سيرة الصحابة تجسيد حي لهذه الحقيقة؛ فقد ثبت سمية وبلال وعمار وغيرهم على الحق رغم البلاء، لتكون لهم العاقبة في الدنيا قبل الآخرة.
** كاتب عراقي