ناصر الهادي
الحقيقة أن تجربة تايلند تمثل أنموذجًا عمليًا لدولة نامية استطاعت عبر السياحة والثقافة الاقتصادية النشطة أن تنتقل إلى مصاف الدول المزدهرة الناجحة في شرق آسيا؛ حيث تعد مملكة تايلند واحدة من الدول التي تحولت خلال العقود القليلة الماضية من اقتصاد يعتمد على الزراعة والصيد والموارد الطبيعية الأخرى إلى اقتصاد متنوع قائم على السياحة والصناعة والخدمات.
الكثير من العمانيين يصفون تايلند بأنها وجهة محببة لهم ولأسرهم؛ لما يجدونه فيها من حيوية تليق بالسائح، وحركة تجارية وسياحية وعلاجية، وأمان على مدار الساعة، وتنوع في الفرص، وهي بذلك تقدم دروسًا عميقة في كيفية بناء اقتصاد نابض بالحياة.
السياحة في تايلند ليست قطاعًا منفصلًا، بل هي عصب اقتصادي وسلسلة لوجستية تتغذى بها قطاعات الفنادق والمطاعم ووسائل النقل والأسواق والحرف اليدوية.
وبذلك، أنتجت السياحة ملايين الوظائف التقنية المدربة على التعامل مع البشر من مختلف أصقاع الكرة الأرضية؛ من الأعمال في الفنادق، وسائقي التوك توك، والعاملين في البواخر السياحية والمتاحف والمحلات التجارية، إلى بائعي الشوارع، وهذه الثقافة أنتجت مجتمعًا اقتصاديًا نشطًا، حيث الدورة المالية لا تتوقف: سائح يشتري، بائع يبيع، نادل يقدم، سائق ينقل، مصانع تعمل، ومزارع تنتج. وهكذا تكتمل الدورة.
قبل جائحة كورونا، كانت تايلند تستقبل أكثر من 40 مليون سائح سنويًا، وهو رقم يوازي نصف عدد السكان تقريبًا، وبمتوسط إنفاق للسائح يتراوح بين 1000 و1500 دولار تقريبًا، ما يعني عائدات سياحية تقارب 50 مليار دولار سنويًا، والمهم أن السر يكمن في طريقة إدارة هذه التدفقات؛ حيث يتحول السائح إلى مستهلك في السوق، وإلى زائر متجول، وإلى شخص يقصد المستشفيات المتخصصة من أجل صحته، ثم إلى راكب في طائرة محلية يزور مناطق داخلية وجزرًا جميلة، هكذا تتحرك الأموال بين الأيدي وتتحول الزيارة العابرة إلى دورة اقتصادية مستمرة.
ورغم أن السياحة صنعت الواجهة، فإن التعليم الأكاديمي والمهني كان الدعامة التي قامت عليها النهضة التايلندية؛ إذ أدركت الدولة مبكرًا أن أي اقتصاد قوي يحتاج إلى جامعات قادرة على إنتاج المعرفة والكفاءات، ومعاهد مهنية تخرّج الأيدي العاملة الماهرة التي تدير الفنادق، وتطور الحرف، وتقود المصانع.
اليوم يوجد في تايلند مئات الجامعات وأكثر من 400 مؤسسة للتعليم المهني تستوعب ما يقارب نصف خريجي الثانوية سنويًا، وهذا المزج بين التعليم الأكاديمي الذي يرفد الاقتصاد بالعقول، والتعليم المهني الذي يمده بالمهارات، هو ما جعل دورة الاقتصاد التايلندية متوازنة وقادرة على الاستمرار.
الرحلة إلى تايلند ليست سياحة فقط، بل هي مدرسة اقتصادية متكاملة، تعلمنا أن التنمية ليست مشروعات إسمنتية صماء، بل ثقافة تتغلغل في تفاصيل الحياة، تعلمنا أن الوظائف لا تُخلق بقرارات عشوائية، بل بحركة الناس في كل المهن، ومن هنا تبدأ صناعة الحياة، وتعلمنا أن السياحة ليست فندقًا فخمًا فقط، بل بائعًا بسيطًا يبتسم للسائح ويقدم له ثمرة فاكهة بنصف دولار.
لكن هذا الإنسان لكي ينجح يحتاج إلى بيئة جاذبة ودولة تفتح له الأبواب؛ لكي ينجز ويعمل، ويُهيئ له المناخ للاستثمار والعمل والسياحة.