د. محمد بن عوض المشيخي **
العالم من حولنا يشهد تحولات غير مسبوقة نتيجة للتطورات المتسارعة للثورة التكنولوجية وأجيالها المتعاقبة والتي أفرزت ما يُعرف اليوم بجيل “زد” (Z) الذي رضع وترعرع في العالم الافتراضي لمختلف الأجهزة الإلكترونية وعلى وجه الخصوص الهاتف الذكي الذي أصبح بمثابة قناة تلفزيونية كبيرة مكتملة الأركان والتي تغذيها منصات “تيك توك” و”اليوتيوب” التي يُرفع عليها يوميا أكثر من مليار ساعة، والتي هي عبارة عن مقاطع فيديو بالصوت والصورة.
بينما تحاصر الجميع من جيل زد منصة (Netflix) وأخواتها من الأفلام السينمائية في الترفيه المبتذل والخيال العلمي التي تدعو في معظمها إلى الإلحاد والانتحار والمثلية، والكثير من القيم الدخيلة، وتغلغل أكثر وأكثر في أعماق أفضل ما أنتجته التقنية الأمريكية خاصة الشبكة العنكبوتية وزواياه الخلفية المظلمة منها تارة والأكثر وضوحًا وبروزًا تارة أخرى، وذلك حسب الاستراتيجيات المرسومة مسبقًا من الذين صنعوا لنا هذا التكنولوجيا ببعديها الذي يتمثل في الأجهزة (Hardware) والبرامج والتطبيقات (Software) التي تعتبر الولايات المتحدة الراعي الأول لها، مع مساهمة متواضعة من الصين، كما هو الحال تطبيق “تيك توك”، الذي أصبح اليوم أمريكي الهوى والهوية، بعد توقيع دونالد ترامب على صفقة شرائه؛ لينضم بذلك إلى منابر الإمبراطورية الإمبريالية الغربية القائمة على الاحتكار والسيطرة المطلقة على تصدير الفكر الهدام، والتي سبق أن أسست شبكة الإنترنت بهدف السيطرة على العالم من خلال ما يعرف بالقوة الناعمة الأمريكية بدون حتى لا تطلق رصاصة واحدة.
حروب اليوم أصبحت ذات طابع رقمي تستهدف الشباب وتوجيههم حتى ضد أوطانهم. والسؤال المطروح الآن: من هو جيل زد؟ يجب التأكيد هنا بأن الأمريكان هم الذين أطلقوا تلك الأسماء على الأجيال التي ولدت بالتزامن مع انتشار الإنترنت في العالم فهنا جيل “ألفا” للذين رأوا النور بعد جيل “زد”؛ أي الذين ولدوا من عام 2013 حتى عام 2024؛ بينما جيل “زد” هم مواليد ما بين 1997 2012. ومن مزايا وخصائص جيل زد القدرة على التغيير والمثابرة والطموح ومحاربة الفساد والرغبة الأكيدة في العمل في البيئة الرقمية بكل أبعادها، والأهم من ذلك كله كثافة الأوقات والساعات الطويلة التي يقضوها في رحاب العالم الافتراضي والتفاعل المباشر مع المنصات الرقمية بمختلف أنواعها، وعلى وجه الخصوص شبكات وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية وتطبيقات الذكاء الاصطناعي. صحيحٌ أن هؤلاء يعانون من القلق والتوتر والعزلة الاجتماعية والاغتراب والبُعد عن المحيط الاجتماعي والأسري، لكن على الرغم من ذلك تكمن قوة هذا الجيل الرقمي في قدرتهم على التحيل والنقد واختيار المعلومات التي تناسب معتقداتهم.
وقد كشفت الدراسات العلمية التي طُبِّقت حول العالم بأن جيل زد يعتمد على مصادر متعددة في الحصول على الأخبار ومعرفة العالم بشكل عام، وذلك من خلال جوجل التي تعد أكبر مكتبة رقمية في هذا الكون، وأيضا المواقع الإلكترونية في توثيق المعلومات التي تخضع أولاً للاطلاع ثم التمحيص والحفظ، وأخيرا الاعتماد والرسوخ كبنك معلوماتي يستخدم عند الحاجة والضرورة. والأخطر من ذلك هو أن هذا الجيل يرفض بشكل قاطع تصديق المعلومات التي تعرضها وسائل الإعلام، وكذلك المراجع التقليدية في المحيط الاجتماعي كالآباء والشيوخ والمدرسين. ففي المغرب الذي يعيش هذه الأيام حراكًا يُطالب بتحسين الخدمات الصحية وإصلاح قطاع التعليم ومحاربة الفقر، تجلى واتضح لنا من يُحرِّك الشباب ويوجههم، فقد كانت الوزارات المغربية تروج لأعمالها ومشاريعها من خلال ما يُعرف بالمؤثِّرين عبر وسائل التواصل الاجتماعي مقابل مبالغ طائلة تدفع لهؤلاء المشاهير بهدف تهدئة المجتمع وإقناعه بجدية الحكومة وتميز خدماتها، ولكن الذي حصل في الأيام الماضية يكشف عن فشل ذريع في البضاعة الكاسدة التي يقدمها رواد وسائل التواصل الاجتماعي التي في واقع الأمر ارتدت بشكل عكسي على الحكومة المغربية الحالية التي قد تستقيل أو تُقال بأمر ملكي في القريب العاجل.
وفي الختام، من المؤسف أنَّه لا توجد دراسات علمية استقرائية ميدانية وحتى إلكترونية، لكي تكشف لصُنَّاع القرار في دولنا العربية التنبؤ بوقوع الأزمات والعمل على إيجاد حلول منطقية للتحديات التي تواجه مجتمعاتنا من المحيط إلى الخليج، وإن وُجِدَت تتمحور حول قضايا ما يعرف بالإسلام السياسي فقط، بينما على الجانب الآخر تُنفِّذ الجامعات والمراكز البحثية الإسرائيلية والغربية دراسات على الأجيال الإلكترونية الرقمية في الوطن العربي وخاصة جيل زد الذي تخصص له المراكز الصهيونية منذ 2016 جُل بحوثها العلمية بهدف استقراء جيل الألفية الجديدة ومعرفة توجهاته عن قرب ومواقفه من حكوماته المحلية.
** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري