مدرين المكتومية
في زَحمةِ الحياة وتسارع أيامها وثقل تفاصيلها يشعر الإنسان برغبة في البقاء بعيدا عن كل شيء، بحاجة لاستراحة بعد كل الركض خلف متطلبات الحياة الصعب منها والبسيط، البقاء بعيداً عن كل شيء، ولكن شيئاً واحداً فقط يُمكنه أن يُغير تلك الرغبة ويجعل الإنسان أكثر فرحًا وسرورًا ورغبة بعيش التفاصيل يمكن اختصارها بكلمتين وهي “جبر الخواطر”.
وجبر الخواطر أسمى القيم الإنسانية التي لا تقاس بكثرة المال والعطايا ولا بضخامة الأفعال، بل بصدق النية ورقة الإحساس والمشاعر؛ فجبر الخاطر هو ذلك الفعل البسيط الذي يُعيد للإنسان توازنه النفسي والروحي، ويمنحه الشعور بأنَّه مسموع ومرئي ومُقدر وكل ما يقدمه هو جدير بالاهتمام، فهو الكلمة الطيبة في وقت الألم والضيق، أو ابتسامة صادقة في لحظة حزن وانكسار، أو موقف إنساني عظيم من شأنه أن يُرمم ما تصدع في الداخل دون ضجيج.
وتكمن أهمية جبر الخواطر في أثره العميق الذي يتجاوز اللحظة؛ بل يذهب إلى ما ذلك للبعيد؛ فالإنسان قد ينسى كثيرًا مما قيل له لكنه لا ينسى شعوره حين قيل له ذلك، فالشعور بالنسبة للإنسان أهم بكثير من أي لفظ أو أي ثناء، لأن كلمة واحدة قد ترفع معنويات شخص أنهكه التعب والخذلان وتُعيد ترتيب حياته بأكملها، كما إن تصرفاً بسيطاً أيضًا قد يُعيد الثقة لنفس كانت على وشك الذبول والانطفاء، فجبر الخواطر لا يحتاج إلى مناسبة معينة، بل يحتاج قلبا حيا ووفيا يدرك أنَّ الجميع يخوضون معاركهم الخاصة بصمت.
ومع بداية عام جديد يصبح جبر الخواطر فرصة حقيقية لأن نُعيد ترتيب أولوياتنا الإنسانية فيها قبل خططنا العملية، أن نعيد علاقتنا بأنفسنا وبالآخرين من حولنا، أن نبدأ عامنا الجديد بنية أن نكون أخف على قلوب من يعيشون بمحيطنا وفي بيئاتنا المختلفة سوى محيطنا المهني أو العائلي وربما محيط الغرباء منهم أيضا الذين نلتقيهم بين الحين والآخر، بحيث نكون أقرب لآلامهم وأكثر وعيا بتأثيرنا عليهم، كما علينا أن نُراجع كلماتنا قبل أن ننطق بها وأفعالنا قبل أن نقوم بها ونتذكر دائماً أثر كل شيء قد نخفله في حياة أحدهم بسبب كلمة أو فعل بقصد أو عن غير قصد فربما كلمة قاسية تهدم ما بني في سنوات، وربما كلمة طيبة تفتح أبواب أمل لم تكن في الحسبان.
وجبر الخواطر فعل يحمل في جوفه الكثير من الأشكال فلربما يكون عبارة عن كلمات أو أفعال، أو حتى أن تكون هدايا صغيرة كقنينة عطر فواحة تحمل تأثيرا نفسياً عميقاً يصنع يوم أحدهم أو يغير مزاجه، وربما يجعله يلتفت لنفسه بحب، فكل تلك الأشياء قد لا تقاس في لحظتها بقيمتها لكنها قد تشعر المتلقي بأنَّه مقدر ومهم وله مكانته الخاصة، فعل إنساني عابر قد يُغير حياة شخص بأكملها وقد يُغير يوماً كاملا منها، فالإنسان بطبيعته يتأثر ويتفاعل فتجده يخزن المشاعر أكثر مما يمكن أن نتصور ويحتفظ بها بذاكرته ودواخله؛ فالحالة النفسية للإنسان ترتبط ارتباطا وثيقا بتعامل الآخرين معه، فحين يجد من يجبر خاطره ويشتريه يشعر بالأمان ويستعيد ثقته بنفسه وبمن حوله، والشخص الذي يتخذ جبر الخواطر منهجاً في حياته، فهو في الحقيقة لا يداوي غيره فقط بل يرقي إنسانيته ويهذب روحه من كل ما هو سيئ ومُشين، فلذلك ترى أناسًا يمثلون سعادة مطلقة لغيرهم بمجرد النظر إليهم فقط، لأنهم يمتلكون تلك الطاقة ويقومون بكل تلك الأفعال بغير قصد، فهي تلازمهم كشيء اعتادوا عليه.
وفي عالم يزداد قسوة، يبقى جبر الخواطر عملًا ناعمًا وإنسانيًا عميق الأثر.. عمل لا يحدث ضجيجًا لكنه يصنع فارقًا لا يُنسى.
وعشية العام الجديد، وقبل ساعات من بدء رحلة جديدة في دروب الحياة، أتمنى أن نجعل جبر الخواطر عنوانًا لأيامنا وبداية صادقة لعامٍ أكثر إنسانية وأكثر رغبة في أن يكون عامًا بلا حزن وحقد وألم.
