عوض المغني

تصوَّر أن يطرق بابك زائر غريب أو عابر سبيل يطلب الاستراحة في مجلسك لانقطاع السبل به، وأنت الوحيد الذي خفض له جناح الرحمة والعطف، سوى أنك تكتشف مع مضي الوقت أن الضيف المكسور الجناح تنمو أنيابه، وطالت مخالبه، ويطلب منك مغادرة الدار، بل يهددك بالموت إن لم تفعل!!

مشهد كفيلم سينمائي مكرّر، لكنه حدث فعلًا في فلسطين.

تقول المصادر إن اليهود لم يتجاوزوا 5% من سكان فلسطين التاريخية إبان الحكم العثماني، ومع الانتداب البريطاني تسارعت الأعداد وقفزت إلى مئات الآلاف، وقامت على إثرها الثورة العربية قبيل الحرب العالمية الثانية.

كل ما يحيط بالكيان الصهيوني غريب وعجيب، وينحى إلى أقصى الشيء ونقيضه!!!

الكيان المدعو “إسرائيل” صدرت في حقه مئات القرارات الأممية طوال 76 عامًا، ولكن هذا الكيان لا يُلقي لها بالًا، سوى قرار واحد فقط وهو قرار 181 بإقامة الدولة اليهودية في فلسطين، فقد التزم الكيان بهذا القرار كونه يمثل شرعية دولته، أما غير ذلك فليذهب أدراج الرياح!!

ولطالما ادعى قادة الكيان السعي للسلام مع جوارهم العربي، لكنهم لم يُبدوا أي بوادر حسن نية تجاه المبادرة العربية منذ 2002، بل على العكس، ففي الوقت الذي طُرحت فيه المبادرة في بيروت، كان شارون يحتجز ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير في رام الله ويمنعه من حضور القمة!!

وحتى على المستوى الشعبي، ينسحب التعنّت على مواطني دولة الاحتلال، فعلى الرغم من توقيع إسحاق رابين اتفاق السلام، أو ما يعرف باتفاقية أوسلو، مع منظمة التحرير، لكنه دفع حياته ثمنًا لذلك.

فخلال حفل التوقيع في البيت الأبيض، كانت فرحة عرفات واضحة للعيان، بعكس رابين الذي ربما كان يدرك رفض المجتمع الصهيوني حتى فكرة وجود منظمة تدير شؤون الفلسطينيين على أرضهم المتفق عليها!!

وحتى بعد ثلاثة عقود على الاتفاقيات، تؤكد استبيانات الرأي في كيان الاحتلال أن اتجاه الرأي العام السائد لا يتفق على الاعتراف بحق الفلسطينيين في دولة مستقلة، إذ وصلت نسبة الرافضين إلى 80% من المستطلعين الصهاينة، رغم ما يعانيه هذا المجتمع من المشاكل السياسية المحيطة بهم من خلال استمرار الحرب في غزة.

وعقب السابع من أكتوبر 2023، ادّعت دولة الاحتلال عددًا من الجرائم ونسبتها إلى قوى المقاومة، كقتل الأطفال، وقطع رؤوسهم، واغتصاب النساء في مستوطنات غلاف غزة. لتُثبت الأيام اللاحقة أن كل تلك التهم قامت بها قوات الاحتلال في قطاع غزة، دون مواربة، بل وتباهى جنود الاحتلال بأفعالهم تلك، لتكشف للعالم العقلية الصهيونية وساديتها.

أما في رام الله، حيث منظمة التحرير الموقِّعة مع الصهاينة اتفاقيات السلام والتنسيق والمهادنة، فلم يسلم فلسطينيوها من القتل والإذلال، سواء من الجيش أو قطعان المستوطنين.

فسياسة الاستيطان الحالية بعد السابع من أكتوبر تتآكل معها مساحة الدولة الفلسطينية الموعودة، إلى أقل مما تم الاتفاق عليه بكثير، وقد يكون ذلك هو الإسفين الأخير في نعش حلم الدولة.

فكل مستوطنة تعني مزيدًا من الطرق الالتفافية التي يضطر الفلسطيني لقطعها، فيغدو مشوار العشر أو العشرين دقيقة أكثر من ثلاث ساعات. كما تتزايد معها نقاط التفتيش والإذلال، لتصبح أكثر من 900 نقطة في الضفة الغربية، تُحيل حياة العرب إلى عذاب يومي، ومواجهة مباشرة مع جيش الاحتلال وتطرف المستوطنين!!

وما يحدث منذ أكثر من 650 يومًا (عامين تقريبًا) في غزة، فلا يوجد وصف له.

فغزة التي كان الإسرائيلي يشعل حروبها حسب مزاجه، أو هربًا للأمام من مشاكله السياسية (حروب متعددة: 2008، 2012، 2014، 2021)، فهذه المرة يراها حربًا وجودية لا تنتهي إلا بإبادة جميع الفلسطينيين هناك.

فالحصيلة التي تقترب حسب الأرقام الرسمية من 60 ألف قتيل، لم تُشفِ غلّ آلة القتل الصهيونية، علمًا أن بعض النخب الإسرائيلية توقعت ثورة أو هجومًا من الفلسطينيين مثلما حدث في “طوفان الأقصى”، بسبب حالة الحصار اللاإنساني والمشدد على أهالي القطاع منذ فوز حركة المقاومة بالانتخابات التشريعية عام 2006، يومها رفضت دولة الاحتلال النتائج ووقفت مع فصيل فلسطيني دون آخر، وتكفلت بجعل غزة أكبر سجن مفتوح لمليوني إنسان.

شاركها.