جان يعقوب جبور
في عالمٍ يفترض أن تحكمه القوانين الدولية ومبادئ العدالة، يبرز حقّ النقض (الفيتو) بوصفه أحد أكثر الأدوات إثارةً للجدل في منظومة الأمم المتحدة. فهذا الامتياز، الممنوح لخمس دول كبرى داخل مجلس الأمن، لم يعد مجرّد آلية تنظيمية لضبط التوازنات الدولية، بل تحوّل في كثير من الأحيان إلى سلاحٍ سياسي يُستخدم لتعطيل العدالة وحماية المصالح، ولو على حساب دماء المدنيين واستقرار الدول.
من الناحية الشكلية، يستند حقّ النقض إلى ميثاق الأمم المتحدة الذي وُضع عقب الحرب العالمية الثانية، حين أرادت القوى المنتصرة ضمان عدم انزلاق العالم مجددًا إلى صراع شامل. غير أنّ هذه الصيغة، التي بدت منطقية في سياقها التاريخي، باتت اليوم موضع تساؤل عميق، في ظلّ تغيّر موازين القوى وتنامي الأزمات العابرة للحدود.
عمليًا، يتيح الفيتو لأيٍّ من الدول الخمس الدائمة العضوية إسقاط أي قرار جوهري داخل مجلس الأمن، حتى وإن حظي بإجماع شبه كامل من بقية الأعضاء. وهنا تبدأ المفارقة الكبرى: كيف يمكن لمنظمةٍ أُنشئت لحفظ السلم والأمن الدوليين أن تُشلّ إرادتها بإرادة دولة واحدة؟ وكيف يمكن الحديث عن عدالة دولية في ظل نظامٍ يكرّس الامتياز بدل المساواة؟
لقد كشفت الممارسات المتكرّرة عن الوجه السياسي الخشن لحقّ النقض. ففي نزاعاتٍ وحروبٍ معاصرة، استُخدم الفيتو مرارًا لتعطيل قرارات تهدف إلى وقف العنف أو محاسبة مرتكبي الجرائم الجسيمة، لا لسببٍ قانوني، بل لأنَّ تلك القرارات تمسّ مصالح دول كبرى أو حلفائها. ونتيجةً لذلك، وجد ملايين المدنيين أنفسهم خارج مظلّة الحماية الدولية، فيما بدا مجلس الأمن عاجزًا أو متواطئًا بصمته.
هذا الواقع أسهم في ترسيخ ما يُعرف بـ«العدالة الانتقائية» أو «المعايير المزدوجة»، حيث تُطبَّق قواعد القانون الدولي بصرامة على دولٍ مُعيّنة، وتُعلَّق أو تُهمَل حين تتعلّق بدولٍ نافذة. ومع كلّ فيتو جديد، تتآكل مصداقية الأمم المتحدة، وتتراجع ثقة الشعوب بقدرة النظام الدولي على إنصافها.
في مواجهة هذا الانسداد، تتصاعد الأصوات المطالبة بإصلاحٍ جذري لمنظومة مجلس الأمن. فهناك من يدعو إلى تقييد استخدام الفيتو في حالات الإبادة الجماعية وجرائم الحرب، وآخرون يطالبون بتوسيع عضوية المجلس ليعكس الواقع الدولي الراهن، لا خرائط ما بعد الحرب العالمية الثانية. كما تبرز مطالب بتعزيز دور القضاء الدولي والمؤسسات الحقوقية المستقلة، لتقليص هيمنة القرار السياسي على العدالة.
في المحصّلة، لم يعد السؤال المطروح هو ما إذا كان حقّ النقض قانونيًا، بل ما إذا كان عادلًا. فبين مفهومٍ وُلد بدافع الاستقرار، وممارسةٍ أفرغته من مضمونه الأخلاقي، تقف العدالة الدولية اليوم أمام اختبارٍ مصيري. إمّا أن يتحوّل النظام الدولي إلى فضاءٍ تحكمه القيم وسيادة القانون، أو يبقى أسير منطق القوة، حيث تُقاس العدالة بميزان المصالح لا بميزان الحق.
