بدر بن أحمد البلوشي

الحياة لا تمنحنا دروسها مجانا، بل تكتبها فينا بجراح لا تُمحى. ومن أول دروسها القاسية.. أن الطيب لا ينجو دائما، وأن النوايا البيضاء قد تصبح وسادة للندم حين تُلقى في حضن لا يعرف إلا السواد.

بعض الناس، كلما أحسنت إليهم، ضاعفوا إساءتهم إليك.. كأن الخير في قاموسهم مهانة، والكرم فرصة، والعطاء سذاجة.. تسأل نفسك.. “لماذا؟”، ثم تكتشف أنك قد زرعت وردا في أرض لا تنبت إلا الشوك.

خيانة الأحبة مؤلمة، لكن خيانة من أحسنت إليه تكسر شيئا أعمق.. من ساعدته ليقف، هو أول من يدفعك لتسقط.. من سترته، هو من فضحك.. من رأيت فيه إنسانا، لم يكن إلا مشروع أذى ينتظر لحظة ضعفك.

هناك نفوس تُتقن فن التلون، وتتقن أكثر فن الإنكار.. ينسون أنك كنت ظلهم يوم جف ظل الجميع، ويتناسون أنك كنت سندهم يوم انهار كل شيء من حولهم.. يُنكرونك تماما، وكأنك كنت وهما.

لا تمنح قلبك كاملا لمن لا قلب له، ولا تعتذر عن لطفك، بل اجعل له حدودا. الخير لا يعني أن تكون متاحا، والكرم لا يعني أن تُستنزف، والمساعدة لا تعني أن تصبح وسيلة ثم تُلقى في النسيان.

 

الطيبة ليست ضعفا، ولكن إسقاطها في غير موضعها يجعلها خيانة للنفس.. فليست البطولة أن تحتمل السيء، بل أن تعرف متى تتوقف.. ليس النبل أن تبقى، بل أن ترحل عندما ترى أن مكانك صار مهانة.

هناك من يتغذى على عطائك، ثم حين يشبع، يرميك كمنته الصلاحية.. ومنهم من يتسلق على كتفيك، ثم ينكرك ويقول.. “أنا وصلت بنفسي”.. لا تتفاجأ، فالقلوب المريضة لا تعترف بالفضل، بل ترى في من أحسن إليها نقطة ضعف وجب سحقها.

ولا تحزن إن خذلك من وثقت به، فبعض الهزائم نِعم، وبعض الطعنات شفاء.. الوجوه التي تسقط تُريحك من عناء التجمل معهم.. والخيبات الكبيرة تفتح لك عينا ثالثة ترى بها ما لم تكن تراه.

تعلمت أن العتاب أحيانا إهانة للذات، فبعض القلوب لا تستحق التفسير، وبعض المواقف لا تحتاج إلى رد، وبعض الخيبات لا تنسى إلا بالتجاهل.. الصمت أحيانا أكثر احتراما لكرامتك من آلاف الكلمات.

السيء لا يتغير، بل يُطور أدواته، يلبس وجهك، ويتحدث بلسانك، ويظهر أمام الناس بما سرقه منك.. فإن أحسنت، لا تنتظر عرفانا، وإن أكرمت، لا تنتظر وفاءً.. فقط افعل الخير ثم انس، وراقب من يبقى بعد الضوء ومن يختفي حين يُطفأ.

الألم لا يُعلمك فقط من لا يستحق، بل يُعلمك كيف تمنح، ولمن تمنح، ومتى تتراجع.. هو الغربال الذي لا يُبقي إلا الأصيل.. فإن انكشف لك السيئ، لا تأسف، بل احمد الله أنه ظهر قبل أن تُعلق عليه حياتك.

في النهاية، كن طيبا، لكن ببصيرة.. ساعد، لكن بعقل.. لا تصافح كل يد، فبعضها تُخفي خنجرا.. لا تكن قاسيا، لكن لا تكن غبيا. فالطيبة المفرطة أحيانا انتحار ببطء، باسم الأخلاق..

شاركها.