حمود البطاشي
في إحدى القرى الهادئة التي كانت تُعرف بتكاتف أهلها وحبهم للعمل الجماعي، نشأ مجتمعٌ صغير تسوده البساطة ويغمره الأمل. كان الناس فيها يختلفون في الرأي، لكنهم يتفقون على محبة المكان والحرص على مصلحته. ومع مرور الأيام، تغيّر الحال، وبدأت الوجوه الجديدة تتصدر المشهد، وجوه لم تعرف معنى المسؤولية، ولا تحمل سوى حب الظهور والرغبة في التحكم بمصائر الآخرين.
كان “العم سالم” أحد كبار القرية، رجلًا حكيمًا تجاوز السبعين من عمره، عرفته الأجيال بأمانته وصدقه وحرصه على الصالح العام. عاش عمره بين الناس بالحق، لا يجامل أحدًا، ولا يسعى لمصلحة شخصية. كلما واجهت القرية أزمة، كان صوته حاضرًا، وكلمته تُحترم. لكن الزمن تغيّر، وبدأت فئة من الشباب الذين لم يُختبروا بعد في المواقف الصعبة تتصدر المجالس والقرارات، متذرعين بأنهم “جيل جديد” يعرف أكثر مما يعرف “الكبار”.
ذات يوم، اجتمع أهل القرية لبحث موضوعٍ مهم: بناء ملعب عام للشباب. كانت الفكرة في ظاهرها جميلة، لكنها وُضعت في موقع خاطئ، وسط الأحياء السكنية وقريبًا من الجامع. لم يكن الموقع مناسبًا، وأدرك العم سالم ومن معه من العقلاء أن ذلك سيجلب الضرر للناس، لكن أصواتهم خُنقت وسط ضجيج من لا يفقهون.
قال أحدهم بصوتٍ مرتفع:
أنتم جيل الماضي، لا تفهمون حاجات الشباب، نحن نعرف أين نبني وماذا نفعل!
ابتسم العم سالم بهدوء وقال:
يا ولدي، نحن لا نمنع الخير، بل نحاول أن نضعه في مكانه الصحيح، فالمكان الخطأ يُحوِّل الخير إلى ضرر.
لكنهم لم يصغوا، فقد غلب عليهم العناد والرغبة في إثبات الذات.
مرّت الشهور، واكتمل بناء الملعب في المكان الذي أصرّوا عليه. لم تمضِ أيام حتى بدأت الشكاوى تتوالى: ضجيج في الليالي، سيارات تقف أمام البيوت، أطفال لا يستطيعون النوم، ومصلون يتذمرون من الأصوات المزعجة أثناء الصلاة. حينها، بدأ البعض يدرك أن صوت الحكمة الذي سُكت عنه لم يكن عبثًا، وأن من ظنّوا أنهم “جهلة قدامى” كانوا أكثر فهمًا وحرصًا.
اجتمعوا مرة أخرى، وهذه المرة كان الوجوم يملأ الوجوه.
تحدث أحد أولئك المتحمسين قائلًا بخجل:
يا عم سالم، يبدو أنك كنت على حق، لكننا ظننا أنك تعرقل المشروع.
أجابه سالم بنبرةٍ أبويةٍ هادئة:
لا يهم من كان على حق، المهم أن نتعلم. المشكلة ليست في الخطأ، بل في الإصرار عليه.
ومنذ ذلك اليوم، تغيّر بعض أهل القرية، وأدركوا أن التسرّع في اتخاذ القرارات دون استشارة أهل الخبرة يُدمّر أكثر مما يُصلح. لكن، بقي هناك من لا يتعلم، يظن أن الصوت العالي دليل قوة، وأن كثرة الكلام تعني الحكمة. وهؤلاء هم سبب فوضى المجتمعات في هذا الزمان.
فالجاهل اليوم لا يحمل سيفًا، بل لسانًا يتحدث في كل شأن، يوزّع الأوامر والنواهي كأنه وصيٌّ على الناس. بينما أصحاب الفكر والرأي الصائب يلوذون بالصمت، لأنهم سئموا الجدال في زمنٍ لم يعد يُقدّر الكلمة الصادقة ولا يُنصت للعقلاء.
انتهت القصة، لكنّها في الواقع لم تنتهِ… فهي تتكرر في كل مكان.
في كل حيٍّ، وفي كل دائرة، وفي كل مجلسٍ تُهمَّش فيه العقول الناضجة، ويتصدر فيه أصحاب المظاهر والضجيج.
لقد قال العم سالم يومًا:
“حين يسكت العاقل خوفًا من الجاهل، تتحول الفوضى إلى قانون، والباطل إلى عادة.
ولذلك، سيبقى المجتمع في حاجةٍ إلى من يتكلم بالعقل، لا بالصوت العالي، إلى من يعمل بصمتٍ من أجل المصلحة العامة، لا من أجل صورته أمام الناس.
فما أكثر المتحدثين، وما أقل من يفهمون!