أنور الخنجري
على ساحل مدينة صلالة، حيث يتعانق البحر مع سهول ظفار، ترقد مدينة “البليد” الأثرية صامتةً بين المياه والبحيرات وأشجار النارجيل المحيطة بها من كل جانب. للوهلة الأولى قد تبدو أطلال “البليد” غارقة في العزلة، لكن عند مشاهدتها عن قرب يكتشف الزائر أن كل حجر من حجارتها يروي قصة مدينةٍ عظيمة، مدينة نهضت قبل قرون وملأت الدنيا حياةً وحركة، ثم انسحبت بهدوء إلى ذاكرة الزمن.
يُرجع المؤرخون نشأة “البليد” إلى ما قبل القرن العاشر الميلادي، إلا أن ذروة مجدها كان في العصر الإسلامي بين القرنين الثاني عشر والسادس عشر الميلادي، حيث تحولت إلى ميناء تجاري محوري على طريق اللبان، وكانت واحدة من أبرز الموانئ المزدهرة على ساحل المحيط الهندي. هنا كانت السفن تَرِد من أقاصي الأرض: مراكب تحمل التوابل من الهند، وأخرى تأتي بالعاج والذهب من أفريقيا، وسفن صينية تحمل الخزف والحرير، غير أنّ تاج التجارة الذي توّج المدينة كان اللبان الظفاري، ذلك الذهب الأبيض الذي انتشر من سهول ظفار إلى معابد الفراعنة وأسواق الرومان ومرافئ الصين، وجعل من “البليد” مركزًا لا غنى عنه في شبكات التجارة العالمية. لم تكن البليد مجرد ميناء، بل ملتقىً حضاريًا عالميًا؛ في أسواقها كان المرء يسمع العربية إلى جانب الفارسية والسواحيلية والهندية، وكذلك لغات حمير القديمة كالشحرية والمهرية، حتى غدت المدينة لوحة فسيفسائية متعددة الثقافات.
حول المدينة، كانت المزارع الخصبة تحيطها كالحزام الأخضر، تمدّها بالمياه والحبوب والفواكه وتغذي سكانها وتجّارها العابرين، بينما كانت مقابرها القديمة الممتدة في أطرافها تشهد على تعاقب الأجيال، وعلى استمرارية الحياة والموت في حضن هذه الأرض الغنية. أما حصن المدينة وبيوتها ومرافقها، فقد شُيّدت من الحجارة المرجانية، التي منحتها متانةً ولونًا مميزًا ظل شاخصًا حتى بعد أن غادرها أهلها. وتشير الروايات أن بعض أحجار مدينة “البليد” قد استخدمت بعد اندثارها لبناء بعض بيوت مدينة صلالة.
لقد ورد ذكر البليد في كتابات الرحالة والجغرافيين المسلمين وغيرهم؛ فماركو بولو (1290م) أشار إليها بأنها مدينة عظيمة وجميلة تقع على البحر ومن أكبر الموانئ الرئيسية في المحيط الهندي، كما وصفها ابن بطوطة في القرن الرابع عشر بأنها مدينة كبيرة على بحر الهند، ذات مسجد جامع ومنبر، بينما تناولها العديد من الجغرافيين والرحالة ضمن سياق مدن ظفار المزدهرة. كما زارها قائد الاسطول الصيني “تشنج خو” مرتين (1421م) و(1431م) بصفته مبعوث الإمبراطورية الصينية، حيث وصف طبيعة الحياة فيها واستقبال أهلها له بالترحاب. الجدير بالذكر أنه يوجد للمبعوث الصيني (تشنج خه) نصب تذكاري حديث في سوق الحافة في صلالة يُخلِّد التاريخ الطويل للتبادلات التجارية الودية بين الصين وسلطنة عُمان.
على كل، فإن مسار التاريخ لا يبقى على حال. البحر الذي كان صديقًا “للبليد” بدأ يهددها؛ الرياح الموسمية حملت معها العواصف والفيضانات، والرمال تراكمت في الميناء حتى صارت مياهه ضحلة عسيرة على السفن الكبيرة. وفي الوقت ذاته، تحولت طرق التجارة العالمية نحو موانئ أخرى أكثر أمنًا وحيوية؛ بينما أخذت البليد في الانطفاء شيئًا فشيئًا، ثم جاءت النزاعات والصراعات التي أضعفت الاستقرار في المنطقة، فتراجعت التجارة وانسحب الناس تدريجيًا، ومع القرن السابع عشر كانت المدينة قد دخلت طور النسيان، تاركة وراءها أطلالًا صامتة وأساطير يرددها أهل ظفار عن أمجادها.
واليوم، حين يقف الزائر وسط أطلال مدينة “البليد” المُدرجة ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو، يجد نفسه في فسحة تجمع بين التاريخ والطبيعة، حيث يسمع صدى ذلك المجد الغابر في كل حجر، ويكاد يتخيل أصوات الباعة والملاحين والتجار من جديد. يقف بين بقايا أعمدة المسجد الكبير ويسمع صدى المؤذنين القدامى وضجيج البحّارة. يقف على أطلال الأسوار وآثار المساكن المندثرة، محاطًا بالمزارع والبحيرات التي ما تزال تحفظ شيئًا من روح المكان. ثم يلتفت حوله، فلا يسمع إلا صفير الريح وخرير الماء، كأن المدينة، رغم اندثارها، ما زالت تتنفس ببطء، تحفظ تاريخها في صمت، وتروي للعابرين حكاية ازدهار وزوال، ودرسًا في أن المدن مثل البشر: تولد، وتزدهر، ثم تعود إلى التراب، لكن ذكراها تظل خالدة.
وهكذا، فإن زيارة موقع “البليد” ليست مجرد جولة بين أطلال صامته، أو مقصدًا للباحثين والمهتمين بالتراث، بل هي رحلة في قلب التاريخ، حيث يتداخل الماضي بالحاضر، فزيارة أروقة متحف أرض اللبان والتجوال بين أطلال المدينة يمنح تجربة فريدة تجمع بين التاريخ والطبيعة، حيث يختلط صمت الأطلال مع صفير الريح وهدير البحر في أيام الخريف الماطرة، ليحكي المكان حكاية مدينةٍ ولدت من البحر وازدهرت على عطاياه، ثم ابتلعها حين تحولت مسارات التاريخ، لكنها ما زالت تتنفس لتروي للزائر عن تلك الأيام الخالدة في ذاكرة المكان.
ولكي تتحقق الاستفادة القصوى من هذا المكان، تبرز الحاجة إلى توفر مرشدين سياحيين عمانيين ملمين بتاريخ المدينة وأسرارها، قادرين على إحياء الماضي للزائر من خلال السرد والتفسير. ورغم وجود العربات الكهربائية التي تأخد الزائر حول أروقة المدينة العتيقة إلا أن وجوه السائقين ولسانهم لا يمت للمكان بصلة، وعليه، نوصي جدًا بوجود مواطنين عمانيين يعملون في هدا الجانب لسهولة الحركة والتواصل، وفي الوقت ذاته خلق فرص عمل محلية تعزز من ارتباط المجتمع بالموروث الحضاري في مدينة “البليد” الاثرية التي تشكل جزءًا من هوية عُمان وذاكرتها العالمية.