د. إبراهيم بن سالم السيابي
في “المراغ”، تلك الحارة القابعة على بحر عُمان، والتي عاشت قرونًا على إيقاع البحر وصخب طيور البحر وهدير الموج، جاء الخبر الفاجع: رحل العم علي محمد السيابي، واحد من أعمدة الحارة ورموزها الكبار. لم يكن رحيله مجرد خبر وفاة؛ بل كان سقوط لبنة من تاريخٍ طويل، وانطفاء نورٍ ظلّ يضيء دروب الناس بالخير والنخوة والكرم.
المراغ ليست مجرد بيوت متجاورة، إنها وطن صغير يسكن القلوب، يحمل في جدرانه رائحة البحر، وفي أزقته أصوات الأجداد، وفي ملامحه صبر الرجال وكفاح النساء. كانت البيوت تتعطَّر برائحة الصيد اليومي، والرجال يبحرون إلى البلاد البعيدة والموانئ نحو المجهول بحثًا عن الرزق، والنساء يرقبن الأمواج، يحملن في قلوبهن أملًا وعزمًا وصبرًا.
من بين أبناء هذا المكان برز العم علي السيابي، رجل الجيل الصبور، الذي عرف البحر مرارًا، وخاض في أسفاره بلادًا بعيدة، وعاد دائمًا إلى الحارة التي أحبّها، يحملها في قلبه أينما حلّ. غادر الحارة مرارًا، وجال في بلدان مختلفة، واستقر به الحال في إمارة الشارقة، لكنه لم ينسَ أهله وحارته يومًا.
أسس مع شقيقه الراحل العم فريش “المصنع العُماني للحلوى”؛ ليكون أكثر من مجرد مشروع تجاري؛ كان جسرًا يربط بين الغربة والوطن، وبين رائحة الحلوى وطعم التاريخ. لم تكن الحلوى مجرد صنعة في عينيه، بل كانت هوية وذاكرة وموروثًا يروي قصة عُمان في قلب الخليج، وكان خير سفير لبلاده ونموذجًا للإنسان العُماني، فصار مضرب المثل في الأخلاق والكرم.
لكن ما ميَّز الراحل العم علي لم يكن نجاحه في التجارة فحسب؛ بل قلبه الكبير ووفاؤه العميق. كان أبًا وأخًا وصديقًا لاهالي الحارة، يأخذهم معه إلى الشارقة، يفتح لهم أبواب الرزق، ويعاملهم كأبنائه. كان يعتبرهم من رحمه، في حين كانوا يجدون فيه العون والسند. هكذا صاغ علاقته مع أهله وجيرانه، علاقة لا تبنى على مصلحة، بل على المحبة الصافية والوفاء.
تبكيه “المراغ” اليوم كما لم تبكِ أحدًا من قبل، تبكيه البيوت التي طالما طرق أبوابها ببشاشته، والأطفال الذين اعتادوا على ابتسامته، والشيوخ الذين وجدوا فيه السند والرفيق. تبكيه المجالس التي كانت لا تكتمل إلا بوجوده، والطرقات التي كان حضوره يضيئها. كل زاوية من الحارة كانت شاهدة على حضوره، وكل قلب فيها يئن لرحيله.
لقد كان الراحل طيب القلب، حسن المعشر، كريم اليد، لا يعرف لسانه إلّا الكلمة الطيبة، ولا يعرف قلبه إلّا الحُب. من عرفه أدرك أنه واحد من الذين يُحبّون بصدق، ويُفتقدون بصدق. كان وجهًا مشرقًا للحارة، وذاكرة حيّة تجمع أبناءها على الخير.
ستظل المراغ تتذكرك يا أبا عادل، في كل خطوة على طرقاتها، وفي كل زاوية من زواياها. سيرتك ستظل ترويها الأجيال القادمة لأبنائها، عن رجل عاش للخير والوفاء، عن من حمل قلبه الكبير على كفّ اليد، عن من علم الشباب معنى الكرم والنخوة. كل من ينشأ في الحارة بعدك سيعرف أنك كنت رمزًا للخير، وأن حبك للناس كان أعمق من أي كلمات.
وحتى رائحة الحلوى التي ملأت أزقة المراغ والتي كنت تُحضرها إلى كل بيت من بيوت الحارة، ستظل تذكّرنا بك، بيدك الكريمة وابتسامتك التي لم تفارق وجوهنا. كل قطعة حلوى صنعتها كانت تحمل روحك ودفء قلبك، وكل طعمها كان كأنه لمسة وداع أخيرة. ستبقى هذه الروائح والذكريات شهادة حية على حياتك، وعلى أثر الرجل الذي لن ينساه أحد.
في ليلة الرحيل المظلمة هذه، كان البحر يهدر كما لو يبكي معه، وحتى طيور البحر تُحلِّق في السماء صامتة، وكأنها تشارك الحارة حزنها. رائحة الحلوى التي طالما غمرت الأزقة تفوح اليوم وكأنها وداع أخير، والبيوت تتصبغ بالذكريات، والطرقات تخاطب من رحل قائلة: “لن ننسى وجهك الطيب، وأن مكانك سيظل فارغًا رغم مرور الأيام.
أخيرًا.. رحيل هذا الجيل من الآباء ورجال الحارة يُبكي الشيوخ قبل الشباب، والرجال قبل النساء، وأصبحت الحارة كلها كأنها بيت واحد في الفقد. رحيله يعيد إلينا شعور الفقد الكبير، بأن هؤلاء الرجال لا يُعوِّضهم الزمن، ولا يأتي مثلهم مرتين. لقد غيَّب الموت اليوم رجلًا عاش كبيرًا ومات كبيرًا.. رجل ظلّ قلبه نابضًا بحب أهل حارته حتى آخر لحظة.
رحمك الله يا أبا عادل، وإن العين لتدمع وإن القلب ليحزن، وإنا لفراقك لمحزونون.
أسكنك الله فسيح جناته وألهم ذويك الصبر والسلوان.. وإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.