عبدالنبي الشعلة **
كل مشهدٍ من مشاهد التطورات والتداعيات التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط منذ السابع من أكتوبر 2023، يوم اندلاع عملية “طوفان الأقصى”، يستحقُ أن نتوقف أمامه ونستخلص منه الدروس والعبر. وما أكثرها!
في هذه الوقفة نتناول، مرة أخرى، الحدث الخطير الذي وقع في التاسع من سبتمبر 2025: الاعتداء الإسرائيلي الغاشم على دولة قطر الشقيقة، والذي كان من أخطر تداعيات “طوفان الأقصى”، ويمثل محطة مفصلية تستوجب التأمل. لقد حاولت إسرائيل من خلال هذا العدوان تنفيذ عملية اغتيال جماعية تستهدف كبار قادة حركة “حماس” المقيمين في الدوحة، لكنها فشلت فشلاً ذريعًا في تحقيق هذا الهدف.
إن التصفيات الجسديّة للمعارضين خارج ساحات القتال ممارسة مشينة ترفضها القوانين والأعراف الدولية، لكنها عند متخذي القرار الإسرائيلي تحولت إلى نهج أساسي في إدارة الصراعات. فمنذ ما قبل قيام الدولة العبرية عام 1948، برزت هذه الثقافة الدموية عبر جرائم مثل تفجير فندق الملك داوود في القدس عام 1946، الذي قادته عصابة “الأرغون” بزعامة مناحِم بيجن، والذي سيصبح لاحقًا رئيسًا للوزراء وحائزًا على “جائزة نوبل للسلام”.
لكن الجديد اليوم أن هذه الممارسات لم تعد تتم في الخفاء أو الإنكار كما في الماضي؛ بل أصبحت سياسة معلنة تتباهى بها القيادة الإسرائيلية الحالية، برئاسة بنيامين نتنياهو، التي تمثل ذروة التطرف الصهيوني. لقد تحولت الاغتيالات إلى قاعدة في تحركات إسرائيل، وأصبحت تمارسها، منذ أكتوبر 2023 بشكل خاص، على نطاق واسع في فلسطين ولبنان واليمن وإيران، وتفاخر بها أمام العالم.
منذ أكتوبر 2023، نجحت إسرائيل في اغتيال عدد من أبرز قادة حركة حماس؛ منهم إسماعيل هنية، رئيس الحركة، الذي اغتيل في طهران عام 2024، وحسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، الذي تمت تصفيته في العام نفسه مع كبار مساعديه. كما استهدفت إسرائيل صفوة العلماء والقادة الإيرانيين، وصولاً إلى الرئيس السابق إبراهيم رئيسي الذي قُتل عام 2024 أيضًا. هذه العمليات اعتمدت على مزيج من التكنولوجيا المتطورة والعملاء المحليين الذين جندتهم إسرائيل بمهارة في تلك الساحات، وقاموا بتوفير المعلومات الدقيقة للموساد.
غير أن محاولة اغتيال قادة حماس في الدوحة جاءت مختلفة. فإسرائيل اعتمدت فقط على العنصر التكنولوجي، عبر تتبع إشارات الهواتف المحمولة التي تبث مواقعها حتى في حالة السكون. إلّا أن قادة حماس كانوا قد تركوا هواتفهم في مكان آخر غير مكان اجتماعهم، فوقع القصف الإسرائيلي في الموقع الخطأ، وفشلت العملية رغم تسخير عشر طائرات وصواريخ دقيقة. لقد كان الفشل فادحًا ومحرجًا لإسرائيل، وربما الأول من نوعه بهذا الحجم ضمن سجلها الطويل من الاغتيالات.
والسبب الجوهري للفشل أن الدوحة لم تكن بيئة حاضنة للعملاء والجواسيس من بين مواطنيها. فبينما عانت فلسطين ولبنان، وخاصة إيران، من اختراقات واسعة بفضل نجاح إسرائيل في استقطاب وتجنيد عدد كبير من بين مواطنيها الساخطين أو المتذمرين من أوضاعهم، لم تتمكن إسرائيل، أو حتى تفكر، في زرع شبكة تجسس محلية في قطر أو في أي من دول مجلس التعاون. إن صلابة الولاء والانتماء لدى القطريين والخليجيين شكلت خط الدفاع الأول وحرمت إسرائيل من الدعم البشري المخابراتي الميداني أثناء تنفيذ العملية ما أدى إلى إفشالها.
بل إن ما تناقلته بعض وسائل الإعلام قبل أشهر حول كشف شبكة تجسس من الجالية الهندية في قطر إن صحّ يوضِّح بجلاء أن خطرًا كبيرًا يكمن في العمالة الأجنبية، لكنه يظل أقل أثرًا وفاعلية من العملاء المحليين. ومن هنا تبرز قيمة الوفاء والولاء الوطنيين كحائط صدّ أمام أي محاولة للاختراق.
وهذا يفتح الباب أمام تساؤل جوهري مزدوج: أولًا، كيف تمكَّنت إسرائيل من تجنيد هذا العدد الهائل من العملاء المحليين في دول كإيران ولبنان وفلسطين؟ وثانيًا، وهو الأهم، كيف نرسخ في مجتمعاتنا قيم الولاء والإخلاص للوطن بحيث لا يصبح أبناؤنا ضحايا إغراء المال أو اليأس أو التهميش؟
في الحالة الإيرانية، كان التنوُّع العرقي والمذهبي والتدهور الاقتصادي والكبت السياسي أرضية خصبة لتغلغل الموساد، الذي وجد في المتذمِّرين مادة جاهزة للتجنيد. إن تدهور مستوى معيشة المواطن وضعف الانتماء الوطني والتهميش والخلل في العدالة والمساواة ولّد فراغًا خطيرًا استغلته إسرائيل بمهارة.
أما الجواب على الشق الثاني، والمتعلق بمجتمعاتنا الخليجية والعربية، فهو أن تحصين الجبهة الداخلية يبدأ من الداخل: بتوفير حياة كريمة، وعدالة شاملة، ومشاركة سياسية واسعة، وفرص عمل مجزية تحفظ الكرامة. إن ترسيخ قيم الولاء والانتماء لا يتم عبر الشعارات وحدها؛ بل عبر سياسات عادلة تعزز ثقة المواطن بدولته وتجعله عصيًا على التجنيد والاختراق.
وإذا كان الحفاظ على الولاء الوطني واجبًا، فإنَّ حماية مجتمعاتنا من تغلغل العناصر الاستخباراتية الأجنبية واجب لا يقل أهمية. وهو ما يستدعي منا مراجعة سياسات الاعتماد المفرط على العمالة الوافدة، خصوصًا في القطاعات الحساسة مثل البرمجيات وتقنية المعلومات، وإطلاق مبادرات وطنية خليجية لتأهيل المواطنين لشغل هذه المواقع في أسرع وقت ممكن. كما يجب إحكام الرقابة على قوانين الإقامة والعمل، وتطوير أدوات الرصد والمتابعة الأمنية بما يواكب تطورات التكنولوجيا الحديثة.
لقد فشلت إسرائيل في اغتيال قادة حماس على أرض قطر لأنها اصطدمت بجدار متين من الوفاء الوطني وغياب البيئة الحاضنة للجواسيس والعملاء. وهذه التجربة تذكّرنا أن الولاء هو خط الدفاع الأول عن الأوطان، وأن الأمن لا يُبنى فقط بالصواريخ والطائرات، بل بالعدل والكرامة والمشاركة. إن العدوان على قطر كان محطة خطيرة، لكنه في الوقت نفسه قدّم لنا درسًا بليغًا: أن الشعوب التي تحسن رعاية أبنائها وتغرس فيهم قيم الانتماء، تبقى عصيّة على الاختراق، وتبقى قادرة على مواجهة كل أشكال العدوان.
** كاتب بحريني