زيلينسكي يُسلِّم بكامل شروط ترامب

عبد النبي العكري
عاد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى عاصمة بلاده كييف من رحلته إلى العاصمة الأمريكية واشنطن؛ حيث الاجتماع المثير مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وغادرها مُبعدًا إلى لندن؛ حيث حضر القمة الأوروبية الغربية المخصصة لقضية أوكرانيا والأمن الأوروبي والعلاقات الأمريكية الأوروبية.
واستقبل زيلينسكي في وطنه استقبال الأبطال؛ حيث ساد الاعتقاد أنه تمسَّك بكرامة ومصالح أوكرانيا في مواجهة ابتزاز وضغوط ترامب الرهيبة، وأن القمة الأوروبية الكندية قد وفَّرت له الدعم المطلوب في مقاومة الغزو الروسي والتهديد الأمريكي بوقف دعمها لأوكرانيا في هذه الحرب إن لم يوافق زيلينسكي على قبول خطة ترامب لتحقيق السلام في أوكرانيا من خلال مفاوضات ترامب مع بوتين وانخراط زيلينسكي لاحقًا بها، والقبول بما يتوصل إليه ترامب وبوتين. إضافة إلى ذلك التوقيع على اتفاق يتم بموجبه قيام أمريكا بالاستثمار في التنقيب واستخراج المعادن وغالبيتها نادرة وثمينة في أوكرانيا مع الوعد باستثمار بعض أرباحها في صندوق للإعمار والتنمية بعد توقف الحرب.
إلى جانب الموقف الأوروبي الداعم لأوكرانيا كما جرى التعبير عنه في قمتيْ باريس ولندن، فقد عرض الاتحاد الأوروبي على أوكرانيا اتفاقية بالشراكة معها لتطوير الموارد الطبيعية دون إجحاف.
لكن التطورات التي تبعت مؤتمر لندن فاجأت الرأي العام العالمي وقلبت جميع التوقعات؛ فبعد يوم من رجوعه إلى كييف وفي يوم الثلاثاء 4 مارس 2025، عبَّر الرئيس زيلينسكي عن الأسف لمشاجرته في المكتب البيضاوي مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الأسبوع الماضي، وقال إنه مُستعد للتوقيع على اتفاقية استثمار المعادن مع الولايات المتحدة في أي وقت وبأي صيغة مناسبة. واضاف قائلا إنه يرغب في “تصحيح الأمور” مع الرئيس الأمريكي، والعمل تحت “القيادة القوية” لدونالد ترامب لضمان تحقيق سلام دائم في أوكرانيا، كما دعا إلى “هدنة” في البحر والجو كخطوة أولى لإنهاء الحرب التي استمرت 3 سنوات، فما الذي جرى حتى قلب زيلينسكي موقفه وسلم كل أوراقه إلى ترامب؟!
تأتي تصريحات زيلينسكي هذه بعد يوم من تعليق ترامب لكل المساعدات العسكرية لأوكرانيا، كما إنها تمثل استجابة للشروط التي حددها البيت الأبيض لإنهاء الأزمة الدبلوماسية، وذلك بعد أن طلب مسؤولون أمريكيون من زيلينسكي أن يعتذر علنا لترامب ويوقع على اتفاق استثمار المعادن من أجل إعادة العلاقات الأمريكية الأوكرانية إلى ما كانت عليه؟
وسبق أن قال الرئيس الأوكراني إنه لا يرى سببا للاعتذار، بعد المواجهة القوية مع ترامب ونائبه جيه دي فانس عمَّا نُسب به في البيت الأبيض، قبل أن يتراجع عن موقفه بقوله “لم يسر اجتماعنا في واشنطن، في البيت الأبيض يوم الجمعة، بالطريقة التي كان من المفترض أن يكون عليها. من المؤسف أن يحدث بهذه الطريقة. لقد حان الوقت لتصحيح الأمور. نود أن يكون التعاون والتواصل في المستقبل بنَّاءً”. فماذا جرى؟!
بعد انهيار المحادثات بين الوفدين الأوكراني برئاسة زيلينسكي والأمريكي برئاسة ترامب في البيت الأبيض ومغادره زيلينسكي ووفده مطرودًا من البيت الأبيض ثم سفره سريعًا من واشنطن إلى لندن، لم يسعَ ترامب لتهدئه الأمور مع زيلينسكي؛ بل العكس تمامًا. وبالرغم من الانتقادات التي وجهها أمريكيون وأوروبيون بقسوة لتعامل ترامب المُهين لزيلينسكي والوفد الأوكراني، إلّا ان كبار المسؤولين الأمريكيين بقيادة ترامب والإعلام الموالي له، واصلوا الضغوط على أوكرانيا وزيلينسكي تحديدًا. فقد أصرُّوا على اعتذار زيلينسكي لما اعتبروه إهانة للسلطة الأمريكية في أهم رموزها: البيت الأبيض. وتواتر نشر فصول من حياته السياسية مع ما رافقها من فساد، بما في ذلك إدعاء سرقة المليارات من المساعدات الأمريكية.
أصرَّ الأمريكيون على ضرورة توقيع زيلينسكي على اتفاقية استثمار المعادن المُجحِفة، مع عدم تقديم أية ضمانات أمنية أمريكية كما طلب زيلينسكي. وحتى بعد صدور بيان قمة لندن ومقترح قيام أوكرانيا وبريطانيا وفرنسا بصياغة مشروع للسلام في أوكرانيا وتقديمه للرئيس ترامب للاتفاق عليه، بحيث يكون مرجعا للمفاوضات مع روسيا بحضور هذه الأطراف، فإن ترامب وإدارته أصرَّا على ضرورة أن تقتصر المفاوضات على أمريكا وروسيا وتلتحق بها أوكرانيا للتوصل لاتفاقية سلام.
وبالطبع تواصلت مفاوضات التطبيع الروسية الأوكرانية. وفي خطوة خطيرة ذات مغزى وأصدر ترامب أمرًا تنفيذيًا لوزير دفاعه بيت هيجسيث بوقف جميع المساعدات والإمدادات العسكرية الأمريكية إلى أوكرانيا، بما فيها تلك التي في الطريق. ترامب وإدارته لم يتركا أي خيار أمام زيلينسكي سوى العودة إلى واشنطن للتوقيع على اتفاقية استثمار المعادن المجحفة وتفويض ترامب بقيادة مفاوضات السلام مع روسيا في تخلٍ كاملٍ عن السيادة الوطنية.
ومن الملاحظ أن ترامب وإدارته شكَّكا في شرعية حكم زيلينسكي لانتهاء ولايته رسميًا في 2024 وعدم إجراء انتخابات رئاسية، كما حركوا أنصارًا لهم في البرلمان الأوكراني لطرح الثقة في زيلينسكي.
أما الوجه الآخر لتطور الأحداث؛ فهو حقيقة ما جرى في مؤتمر لندن ومخرجاته. فمن المدهش أن رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر والذي استضاف القمه الأوروبية، قد رحب بتصريحات زيلينسكي التي تراجع فيها عن مواقفه وأكد ثقته في قيادة ترامب لمفاوضات اتفاقية السلام في أوكرانيا. وقد اتضح أنه بالرغم من تعهدات القمة بدعم أوكرانيا في الحرب الدائرة مع روسيا، فإنها اشترطت مساندة أمريكا للقوات الأوروبية المزمع ارسالها إلى أوكرانيا، وهو ما رفضت أمريكا التعهد به، كما إنه باستثناء بريطانيا وفرنسا لم تتعهد أي من الدول الأوروبية الأخرى بإرسال قوات إلى أوكرانيا؛ بل إن إيطاليا رفضت ذلك صراحة.
بالنسبة لروسيا، فقد اعتبرت الن مفاوضاتها مع أمريكا استراتيجية وتتناول العلاقات الثنائية ولا تقتصر على الحرب في أوكرانيا. كما انها أوضحت بجلاء معارضتها كلية للطروحات الأوروبية مثل إرجاع الأراضي التي احتلها في شرق أوكرانيا أو مرابطة قوات سلام أوروبية في أوكرانيا؛ بل أن تكون أوكرانيا منزوعة السلاح. ومن الواضح ان تطبيع العلاقات يتقدم، وقد ذكر أن روسيا تضع في أولوياتها إلغاء العقوبات الأمريكية والغربية وإنهاء تجميد رؤوس الأموال والودائع والممتلكات الروسية لدى الغرب. وبالطبع فإن تطبيع العلاقات الروسية الأمريكية والمفاوضات الروسية الأمريكية تضعف الموقف الاوكراني والأوروبي.
لا شك أن زيلينسكي أدرك ما يترتب على هذه التطورات وكون أوكرانيا تخسر الحرب ولا تستطيع أصلا الاستمرار فيها بدون الدعم الأمريكي، وأن أوروبا مهما قدمت لا يمكن أن تعوض الدور الأمريكي، كما إنه قد يكون قد شعر بتهدد موقعه في السلطة إذا لم يسلم لأمريكا بما تريد.
إن تطورات القضية الأوكرانية وتراجع التحالف الأوروبي الأمريكي والتطبيع الروسي الأمريكي تعكس استراتيجية وعقيدة ترامب والطُغمة الأولجرشية الحاكمة من أصحاب المليارات بقيادة ترامب وإيلون ماسك، لها انعكاساتها الخطيرة والبعيدة المدى في أمريكا والعالم كمرحلة جديدة للرأسمالية في طور انحطاطها.