خالد بن سالم الغساني                

حين سمعت خبر الحكم على نيكولا ساركوزي، وشاهدته وهو يُقتاد ذليلاً صاغراً إلى السجن، تذكرت على الفور، العدالة الإلهية التي تمهل لكنها لا تهمل.

فهذا هو المتجبر نفسه، بشحمه ولحمه، الذي تمنطق صواريخه، وجرّ الناتو من خلفه إلى ليبيا، باسم الحرية والديمقراطية؛ يُساق اليوم ذليل، كلصٍ وخائنٍ إلى السجن باسم العدالة.

نعم، فمن خان من ساعده بالأمس، ومن عض اليد التي امتدت إليه، ليس غريباً عليه أن يعض يد أمه لو كان في ذلك مكسب أو مال قذر.

إنها لحظة ذكرتنا بزارع الفتنة ومختلق الذرائع العدوانية على الغير، الذي أتى اليوم الذي يحاصر فيه بعار أفعاله، ودناءة وحقارة وخساسة تصرفاته ومؤامراته.

لم تكن طائرات الناتو التي حشد لها ساركوزي، لتمطر سماء ليبيا في ربيع 2011 سوى الوجه العسكري لسياسة فرنسية إستعمارية قديمة، أعاد إنتاجها ساركوزي بثوب جديد وعلى مقاييسه. حيث كانت باريس ومدن فرنسا جميعها، بقيادة هذا الخائن، المتخم بأفكار وقناعات المستعمر؛ نيكولا ساركوزي، تتدثر بخطاب وقحٍ وقميء، هو حماية المدنيين، وتنصب نفسها الملاك الذي يخلص أولئك البسطاء، وهي في الواقع تسعى لتصفية حسابات مالية وتنفيذ خطط ومؤامرات إستعمارية، لإعادة بسط نفوذها على الجغرافيا العربية والإفريقية التي انفلتت من قبضتها منذ زمن الاستعمار المباشر.

لكن التاريخ، يمتلك ذاكرة أطول من ذاكرة الساسة؛ فالرجل الذي قاد التحالف لإسقاط معمر القذافي، يقف اليوم مداناً بتهمة تلقي تمويلات غير مشروعة من نفس الرجل الذي قصفه وطارده حتى الموت.

ساركوزي، الممثل الفاشل، الذي حاول أن يتقمص دور “منقذ الشعوب” و“بطل الديمقراطية” كان نموذجًا سيئًا وفاضحًا لانتهازية ودناءة السياسة الغربية حين تحاول أن ترتدي عباءة القيم. فبينما كانت طائراته تدك طرابلس وبنغازي باسم الحرية، كانت خزائنه الانتخابية عام 2007 تتغذى – وفق القضاء الفرنسي من أموال القذافي نفسه. أي مفارقة هذه ؟! أن يتحول الممول إلى ضحية، والآكل من المائدة إلى الجلاد الذي يقلبها على صاحبها ؟!!

ما فعله ساركوزي في ليبيا كان عملاً سياسياً قذراً، غلفه كما يغلّف مارشالات الحرب المستعمرين خطاباتهم، بجمل وعبارات أخلاقية جوفاء، تفوح رائحتها بنتانة وخسة الغزاة والمستعمرين. فرنسا التي تقدم نفسها للعالم باستمرار كـ“أم الثورات” والمدافعة والحامية لحقوق الإنسان، كانت أول من بارك تحويل ليبيا إلى ساحة رماد، 

تاجر ساركوزي بمآسي شعب ليبيا لتسجيل نصر انتخابي في الداخل الفرنسي، بزعامة هذا الساركوزي الذي يُقتاد اليوم إلى السجن التاريخي الشهير في باريس، “لا سانتيه”، السجن الذي افتتح في عهد الإمبراطور نابليون الثالث، ويعرف بأنه رمزٌ للصرامة والعزلة.

لقد أسقط الناتو، النظام الوطني في ليبيا، وأعدم زعيمه التاريخي معمر القدافي، في واحدة من أشد وأحقر الجرائم شناعة ووقاحة، وأقام بديلاً عنه الفوضى والخراب وحولها إلى دولة فاشلة؛ ميليشيات متناحرة،، وثروات تُنهب، وشعب يعيش وسط فراغ سياسي وأمني لم يخرج منه حتى اليوم.

الآن وبعد أكثر من عقد، يدخل المجرم وخائن الأمانة، ساركوزي، هذا السجن سيء السمعة، لا بسبب جرائم الحرب، لأن الغرب الاستعماري لا يعتبر غزواته على الشعوب جرائم، ولا بسبب تدمير دولة عربية، لأن ذات النظام الاستعماري لا يعتبر العرب ودولهم سوى آبار نفط وخزائن ثروات تغذي مصانعهم وتدوّر عجلات آلاتهم وأدواتهم، بل لأن ساركوزي، الرئيس الفرنسي الأسبق، قبض أموالاً قُدّرت بـ50 مليون يورو، قبضها من المغدور به، العقيد معمر القذافي قبل ثلاثة عشر سنة، لتمويل حملته الانتخابية عام 2007.

العدالة الغربية، كعادتها تحاكم الفساد المالي حين يمس الداخل، لكنها تتعامى عن الفساد الأخلاقي حين يُمارس على الشعوب الأخرى، بل وتعتبره جزءًا مما ينبغي ممارسته على تلك الشعوب التي لا تصلح لشيء من وجهة نظرهم، سوى العمل في خدمة تلك الشعوب المتمدنة والمتحضرة.

سجن ساركوزي البوم بالتأكيد لا يعيد لليبيا شهداءها، ودولتها الوطنية الموحدة، ولا يعيد للعرب كرامتهم المهدورة، وهو أصلاً لم يأتِ من أجل ذلك، لكنه يكشف مستنقع ورذالة القناع الأخلاقي الذي أسقط فيه ساركوزي، فرنسا، وترتديه كل دول الغرب الإستعماري التي أسقطها فيه، أمثال ساركوزي، وهي ترفع شعار حماية المدنيين زوراً وبهتاناً.

المشهد كاريكاتوري حد السخرية؛ رئيس غربي تلطخت يداه بدماء بلد عربي، يدخل السجن بتهمة رشوة من ذلك البلد ذاته. إنها العدالة التي لم تكتمل بعد، لكنها على الأقل تفضح، وتذكرنا بأن الإمبراطور العجوز ما زال عارياً وسيظل كذلك مهما حاول التستر والتجمّل.

إن سقوط ساركوزي، الساقط منذ زمن طويل، يعني سقوط كامل المنظومة السياسية الغربية التي بنت نفوذها على الكذب بأسم الأخلاق، والعدوان الشيطاني، والهيمنة المقنّعة.

وما بين التدخل الإنساني الذي تدّعيه،  والتمويل الليبي الذي قبضه أحد زعمائها، خيط واحد غليظ، لا يمكن لأحد أن يتجاهله، إلاّ المنافقون والمتمصلحون، إنه الدجل السياسي وإنعدام الأخلاق وحيوانية المستعمر.

وحين يُحاكم ساركوزي اليوم، فإن التاريخ ذاته هو من يقف في قاعة المحكمة، شاهداً على زمنٍ كانت فيه القيم المدعى بها، سلاحاً لتبرير الاحتلال، وكانت الديمقراطية سلعة تصدّرها أمريكا وأوروبا إلينا بمدافع الناتو وصواريخها الذكية.

الشعوب التي ذاقت مرارة الوعود الفرنسية لم تعد تصدق خطب باريس عن حقوق الإنسان، لأنها رأت كيف تحولت تلك الحقوق إلى ركام ورماد ودماء في طرابلس وفي بنغازي.

وساركوزي ليس إلا رمزاً لذلك الغرور والجبروت الاستعماري، وها هو الذي ظن نفسه سيّد القرار العالمي، يدخل السجن اليوم بقرار من قاض ٍ فرنسي، كأي لص ٍ فاسدٍ خائن للأمانة.

إنها لحظة رمزية تقول بأعلى الصوت: من يزرع الظلم، سيجنيه، ومن يحرق المدن  باسم الحرية، سيحترق إسمه في السجن وفي كتب التاريخ بالعار والشنار. 

فهل لا يزال أحدٌ لم يصدق حقائق التاريخ؟!

شاركها.