يعقوب بن محمد الرحبي

كانت لي سابقًا محاولة لنشر هذا المقال في بعض الصحف، إلا أنَّه للأسف تحفظت تلك الصحف، ولعلي أجد ضالتي اليوم في صحيفة اخبار عمان العُمانية، هذه الصحيفة الرائدة التي استطاعت أن تصل إلى كل قارئ عماني ليطلع على الدور الثقافي والاجتماعي الذي تلعبه اخبار عمان العُمانية.

لربما تحفظت بعض الصحف على نشره لأنه يحمل حقائق عن أمة قال الله عنها “كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ” (آل عمران: 110)، فهم يرفضون بث مثل هذه الحقائق المُؤلمة، لكنني كنت مُصرًّا على نشرها كي يعلم المسلمون حقيقة ما يجري في مجتمعاتنا لننهض بها ثقافيًا وفكريًا. من هنا بدأت القصة، لا شك أن الكثير منَّا كان غير مطلع على ما يجري ويحدث في العالم، ولا يرى إلا عادات وتقاليد مجتمعه، وبعضًا من الموروثات التي ليس لها علاقة بالدين أو العلم، ولا يقبلها العقل الذي يعتبر المصدر الأول للمعرفة، بمعنى انغلاق فكري. وكنت أنا والكثير من أبناء جيلي لا نملك إلا أن نستسلم لما نسمع ونرى من إملاءات، مهما كان مستواك العلمي والثقافي، ليست لك الحرية في التفكر والتدبر، إلا ما يمليه عليك واقع المجتمع، سواء كنت مقتنعًا أو غير مقتنع بتلك الأفكار، وإلا فستكون شخصًا منبوذًا، فأصبحنا بين مجامل أو متأثر بها دون وعي أو إدراك، لأن في نظرنا ومفهومنا هذا هو مصيرنا وهذا هو ديننا، وهذا حال كثير من شباب المسلمين وهم السواد الأعظم. والحقيقة أن الكثير من المحاضرات التي تغزونا تفتقر إلى المصداقية ومحشوة بالخرافات والافتراءات التي تعارض العلم، ولا يقبلها العقل، لأن الدين في الأساس لا يُبنى على الشك أو الظن، إنما بالعلم واليقين. ومن المؤكد أننا فهمنا إسلامنا فهمًا خاطئًا، واستعملنا إسلامنا في هدم أهدافه وتعاليمه، واستخدمنا نصوص القرآن لنطفئ نور القرآن.

وأول خطأ وقع فيه المسلمون: مفهوم القدر وما يجري به القلم، وما كتبه الله في اللوح المحفوظ، واستسلمنا. فهمناه فهمًا سلبيًا تمامًا، فما دام الله كتب وقضى على هذه الأمة، فما الداعي للكد والعمل والأخذ بالأسباب والدفاع عن مقدراتها ومكتسباتها؟ فهذا هو قدرنا! فحاربنا عدونا بالدعاء والاستسلام وتركنا الأمر لله ولم يُستجَب لنا. حولنا إسلامنا إلى سلبية كريهة وكسل، وفي هذا المفهوم تدليس على النفس وعلى الله، فلا أحد يعلم ما كتب الله، وما أبرم وما قضى.

والخطيئة الثانية: هي مقولة السلف (لا اجتهاد مع النص)، وهو أمر صريح بتعطيل العقل تمامًا. وكانت نتيجة هذه المقولة أو الوصية توقف الاجتهاد لقرون، وتحولت نصوص القرآن إلى حفريات ونقوش يُحظر المساس بها أو التفكر والتدبر في معانيها إلا التلاوة والحفظ فقط، مع أن النبي وأصحابه اجتهدوا في بعض النصوص، فرأينا النبي لم يقطع يدًا في الحروب وهو استثناء لم يُشِرْ إليه القرآن الكريم، والخليفة عمر مثال آخر لم يقطع يد السارق في مجاعة وهو استثناء لم يرد أيضًا في الآية، ومنع المؤلفة قلوبهم. وعمر بن عبدالعزيز أمر بتزويج الشباب من صندوق الزكاة، كل هذا اعتمادًا على صريح العقل، والعقل لا يجوز تعطيله، لكن المسلمين آثروا الكسل وآثروا إغلاق باب العقل في كل شيء، ولم يقف كسلهم عند فهمهم للقرآن وآياته، إنما امتد إلى البيئة والتنمية والتقدم العلمي والتكنولوجي، وإلى الكون ومحاولة فهم قوانينه، وإلى العلوم وإلى السياسة والمجتمع والمرأة التي استُعبدت وانتُهكت حقوقها، وإلى الحياة وإلى دنياهم كلها التي انحدروا بها إلى الحضيض وتصارعوا وتقاتلوا فيما بينهم. وفوق كل هذا يرون أنفسهم بأنهم الفرقة الناجية رغم أنهم لم يخدموا البشرية ولم يقدموا شيئًا للإنسانية، لكنهم سيدخلون الجنة ليس لسبب إلا لأنهم مؤمنون بصلاة وصوم وحج.

في الحقيقة، زيارتي إلى أوروبا غيرت مسار حياتي، وأهم ما قدمت لي حب الاطلاع والمعرفة. منذ وقت مبكر والحلم يراودني لزيارة أوروبا، وكنت متعطشًا لأرى أوروبا على حقيقتها، إلا أن الفرصة لم تكن سانحة آنذاك. وبعد فترة وجيزة بدأت أتجول وخلال خمسة عشر عامًا تمكنت من زيارة أكثر من تسع وثمانين دولة معظمها أوروبية. وأثناء زيارتي إلى هذا العالم الغريب، لم أستطع أن أقارن بين مجتمع عشته وبين مجتمع رأيته وأدركته، وبالأخص دول أوروبا التي كان الفقهاء يحذروننا من السفر إليها أو حمل القرآن إلى ديار الكفر، انكشفت أمامي حقائق، وظهرت ثقافات تختلف عما سمعت وقرأت، كانت بالنسبة لي صدمة. رأيت في أوروبا نظامًا وقوانين ونظافة، رأيت قيمة للإنسان وللحيوان، رأيت أمانة وصدقًا وإخلاصًا في القول والعمل، رأيت اكتشافات علمية واختراعات وصناعات، رأيت نظامًا وهندسة متناهية الدقة في بناء المدن والتخطيط، رأيت حرية في التفكر والتعبير والتدبر وصورة الديمقراطية. بل رأيت المسلمين المقيمين في أوروبا يمارسون شعائرهم الدينية بكل حرية وحقوقهم مكفولة كفلها القانون، وهم في بلدانهم مضطهدون تحت أنظمة دكتاتورية. هنا تذكرت قول الشيخ الفقيه محمد عبده عندما زار أوروبا قال قولًا مشهورًا لا يزال إلى يومنا هذا يردده الكثير من المسلمين: “رأيت في أوروبا إسلامًا بلا مسلمين وفي بلدنا مسلمين بلا إسلام”. وما دعا الشيخ إلى قول هذا إلا ما رأى من حقيقة واقعة، حينها علمت بأن إسلامنا حُرِّفَ عن مساره، فحدث تزوير وتحريف في كثير من المفاهيم، ففهمت السر وتألمت.

علمت بأن أوروبا كرست كل جهودها لتنير عقل الإنسان وتستثمر طاقاته، وتدعم مواهبه، إيمانًا منها بأن الإنسان هو أعظم استثمار، وهو صانع الحضارات، لذلك وفرت له كل السبل وأتاحت له كل الإمكانيات، جعلت له حرية التدبر والتفكر. أدركت هذه الشعوب منذ الوهلة الأولى أهمية الحياة فسخرتها للعلم والمعرفة ولم تجعل من الدين عقبة أمام تقدمها ورقيها، تمردت على الكنيسة ولم تقبلها وهو تمرد محمود ، لذلك أصبحت في مصاف الدول المتقدمة، وهذا دليل بأن هناك أسسًا قامت عليها هذه النهضة، من خلال وضع استراتيجية صحيحة في التعليم والتخطيط، رغم أن الجميع يعلم بأن أوروبا عانت من حروب كلفتها الكثير، لكنها تعلمت من الأخطاء، وهذا ما تفتقر إليه الأمة العربية والإسلامية وهو سبب فشلها، وتلك سبب رقيها وتقدمها.

عندما كانت أوروبا تصنع حضارتها وترتقي بعقول شبابها فكريًا، علميًا، اجتماعيًا واقتصاديًا، نحن اكتفينا بالاستماع إلى الخطاب الديني العقيم الذي للأسف انحرف عن جادة الصواب، فلم يكن خطابًا متجددًا يتناول قضايا أمتنا، بل خطابًا جامدًا وعقيمًا همّش دور المثقفين والمفكرين وأصحاب الرأي، وعطّل طاقات الإبداع، والمواهب بكل أشكالها ، فلوث عقولنا ، فبدلًا من أن نخرج كفاءات قادرة على صنع حضارتها والمحافظة على تاريخها وموروثها وقيمها، اكتفينا بأن يكون بيننا جيل متشدد يكفر ويلعن ويقتل بعضه بعضًا، أو جيل يحمل مفهوم شكل الإسلام وليس مضمونه، ولم تكن لديه معرفة إلا الموت وسكراته والقبر وضمته والنار وعذابها. أو جيل اكتشف التناقض فانحرف عن جادة الصواب حتى وقع في مستنقع الإلحاد. ولهذا أصبحت أمة ضعيفة تكالبت عليها أنياب الأمم. وأنا حقيقة حزين على هذه الأمة لأن العقل العربي لم يتحرر بعد من القيود والاستبداد وغارق في سبات عميق. وطالما هناك نفاق وكذب ومجاملات وخوف وتقديس للأشخاص وتعطيل للعقل لن تستطيع هذه الأمة أن تستيقظ وتتقدم.

 

شاركها.