سارة البريكية

[email protected]

 

أخذتني خطواتي لمُواصلة التَّغطية وكنت أوثق الأماكن التي أصبحت كالخراب والأرض التي عاث بها الاحتلال في العامين الماضيين وكأن زلزالا كبيرا مرَّ من هنا إلا أنَّه لم يمر بل هو دمار وحرب طاحنة رحل فيها أكثر من خمسة وثمانين ألف شهيد لم يكن رقما عاديا ولن يكون حيث كانت قوافل الشهداء في كل يوم يمر على غزة ومنذ اندلاع الحرب الطاحنة لم يمر يوم بدون قتلى وبدون مناظر صعبة جثث وأشلاء ووجع وفقد وألم وجوع شديد عشت كما عاش النَّاس هنا في غزة في رعب وخوف وقلق ولم يكن أمامنا خيار إلا أننا بقينا صامدين رغم أنَّ الفرصة أتت كي أخرج منها ولكنني أبيت فلا أخلاقي ولا ديني وحبي للأرض يجعلني أنأى بنفسي واختار الحياة فحياتي هنا ومن هنا وإلى هذا المكان امتد كغصن زيتون لم تزعزعه الرياح العاتية فكنت منها وإليها وبها انتمي.

تسنى لي الوقت قليلاً لالتقاط بعض الصور وبعض الفيديوهات التي نزلتها مباشرة على صفحتي فكان ظهوري الأخير لأفاجأ بعدها بمجموعة غادرة تختطفني عنوة ولم أكن أملك وسيلة للدفاع بها عن نفسي لأن عددهم كبير وديدنهم القذر هو الخيانة فمن تربى عليها لن تهمه وجوه الحق التي تصدح بالحق وكان اليوم الموعود بعد أن هدأت النيران وغادرت قوات الاحتلال الغاشم أرضي كان حتميا أن يدفع الثمن غاليًا وحان ثمن كل ذلك هو صالح!

كنت أنظر إليهم وهم يقومون بشتى أنواع التعذيب علي وأراهم وهم يطلقون عليَّ الرصاص ولكنني لا أحس بها تحسست جسدي فوجدت روحي قد فارقت الجسد حلقت على المكان كي اتأكد فكان الجواب حتميا أنني بت شهيدا حر لكنني لازلت أراهم يطلقون الرصاص واحدة تلو الأخرى على جسدي الطاهر ولا أحس بها أدركت وقتها أن الحياة لم تعد حياة وأنه آن الأوان لي أن أرتاح وأن أسعد سعادة أبدية وأن التوقيت المناسب هو اليوم لكنني لن أتمكن من معانقة أخي الأسير الذي سيخرج اليوم لن احتضنه كاحتضان البشري للآخر لكنني سأراه حتما .

أذيع خبري واستنفر الناس من حولي كل أحد منهم يدلو بدلوه حملوني في غطاء ظنا منهم أنني أشعر بالبرد ولم يعلموا أن شعوري الآن مختلف بعد أن تحرر جسدي الكل مصدوم في لحظة واحده تكلم العالم بأسره عني وما كان إلا أن يتوقف كل شيء لأنها أكبر صدمة بعد وقف إطلاق النار وبعد سلسلة من رحيل الشهداء والصحفيين الذين ينقلون للعالم صورة الحرب بهواتفهم وكاميراتهم ويحلقون في كل مكان ولا يعرفون الكلل أو الملل في سبيل إظهار الحقيقة التي حاول الجميع إسكاتها .

في لحظة ما كدت أشعر بجناحين مكان ذراعي وأشعر أنني أطّير وأن هناك أشخاصا كثر أنا لا أعرفهم حتى يبكون ويترحمون علي لكنني لا أعرفهم إلا أن وجوههم وأسماءهم تمر أمامي وكأنني في فيلم سينمائي مختلف ماذا حدث وكيف يمكن لشخص طبيعي بسيط أن يجعل كل هذا الكم الهائل من البشر يدعون الله أن يرحمه ويحزنون لرحيله ويتألمون ووو .

وفي لحظة خروج أخي الشيخ ناجي من الأسر كان صابرا محتسبا قويا كما عرفته دائماً لكنه سيناريو لا يمكن لعقل بشري أن يتصوره أو حتى يفكر به عامين وأنا أنقل الصورة والأخبار للعالم وفي يوم خروج أخي إلى الحياة من الأسر قرر أن يوارى جسدي الطاهر الثرى فسبحانك ربي على عظيم تقديراتك التي لا يفهمها هذا العقل البشري الضعيف.

رحلت .. لكن بقي وجه الله ونصره وعزته وجبروته التي ستأخذ حقي وستشفي غليل والدي وأهلي في القتل الذي تعرضت له لكن ما يسعد في الأمر أنني أصبحت شهيدا حرا.

شاركها.