محمد بن سالم البطاشي
*نظرة على الصراع الإيرانيالإسرائيلي: المصالح الغربية وتحولات التحالفات الدولية وتأثيرها على حرب غزة*
إن احتلال فلسطين لم يكن يوما مجرد خلاف على قطعة أرض، بل هو مأساة حضارية كبرى نكبت بها الأمتان العربية والإسلامية، واختبار لقيم العدالة الإنسانية، وهو جرح لا يزال مفتوحا في الضمير العالمي والحضارة الحديثة وقيمها الإنسانية التي قامت عليها، وهو يعكس أيضا الفشل الذريع والمستمر للنظام الدولي المتشدق بعبارات وصيغ العدل والمساواة ومواثيق حقوق الإنسان ومؤسساته المناط بها تحقيق العدل والمحاسبة على جرائم الحرب والإبادة وكافة الجرائم المصنفة بأنها جرائم ضد الإنسانية، وهو كذلك عنوان لصراع وجودي بين قوى الهيمنة والإقصاء ومنطق المقاومة والتحرر، صراع تاريخي ووجودي بين من يرى فلسطين وطنًا بلا شعب، وبين من يعيشها وطنا لا بديل له مهما اشتدت عليه الخطوب والنوائب، وعلى هذه الخلفية فقد مر الصراع مع الغرب حول فلسطين بمراحل ومنعطفات عديدة بين جزر ومد تخللتها العديد من النكبات والمآسي، وسجل التاريخ العديد من المزايدات والمغالاة في الشعارات والكثير من الاندفاع والارتجال في معالجة وإدارة الأزمات، بل والمؤامرات والخيانات بحق هذه القضية حتى أصبح وضع فلسطين على ما عليه الوضع اليوم.
فمنذ أن تم زرع الكيان العبري في عام 1948، فإن الصراع بين هذا الكيان والمحور المقاوم في المنطقة لم يكن صراعًا عاديا، بل ظل في جوهره امتدادًا لصراعات أوسع تتشابك فيها الجغرافيا السياسية والفكر والوعي العربي والإسلامي، مع المصالح الغربية والتحولات الإقليمية، وقد ظلت مصر تقود هذا الصراع منذ بداية الثورة المصرية عام 1952م وحتى حرب أكتوبر عام 1973م. ثم حمل راية المقاومة بعد ذلك تكتل دول الصمود والتصدي الذي تشكل في بغداد عام 1978م بعد اتفاقية كامب ديفيد. ولكن بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003م بدأ الدور الإيراني في هذا الصراع بالتشكل ثم البروز بوصفها الطرف الأكثر ثباتًا في مواجهة المشروع الإسرائيليالأمريكي، ليس من خلال المواجهة المباشرة، بل عبر دعمها الواسع لأذرع المقاومة في لبنان وسوريا والعراق واليمن وفلسطين.
إن المتابع للصراع بين إسرائيل وإيران يجد أن هذا الصراع يتجاوز المسائل العقائدية أو الإقليمية، ليدخل في صميم معادلة النفوذ في الشرق الأوسط، وهي المعادلة التي تنظر إليها القوى الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، بوصفها جزءًا من منظومة مصالحها الاستراتيجية. فالغرب، الذي لطالما اعتبر أمن إسرائيل خطًا أحمر، يرى في تمدد النفوذ الإيراني تهديدًا مباشرًا لتوازن القوى الذي أرسته اتفاقيات سايكس بيكو وما تلاها من تحالفات أمنية وعسكرية، لكن دوام الحال من المحال، فقد طرأ أمر جديد بدأ يقلب المعادلات القديمة، ويحولها في اتجاه معاكس لما تشتهي سفن الغرب، وبذلك بدأت تتغير قواعد اللعبة القديمة، بظهور لاعبين جدد لم تعهدهم الساحة من قبل ويتمثل ذلك في التشكل المتسارع لمحور دولي جديد تقوده الصين وروسيا ويضم إيران، في إطار تحالفات تتجاوز منطقة الشرق الأوسط التقليدية، يسعى هذا التحالف إلى عالم متعدد الأقطاب أقل ميلا إلى النزعة الاستعمارية، ويقدم نفسه على أنه شريك في المنافع لا مستغلا للموارد، على قاعدة الكل رابح، هذا المحور وإن لم يعلن عن نفسه بشكل رسمي، لكنه يُظهِر ملامحه من خلال تنامي التعاون العسكري والتجاري، واتفاقيات الطاقة، والدعم الدبلوماسي المتبادل في المحافل الدولية.
والناظر إلى الحرب الجارية على قطاع غزة، يجد أن الدعم الإيراني للمقاومة الفلسطينية لم يعد مجرد دعم لوجستي أو إعلامي، بل أصبح جزءًا من إستراتيجية ردع إقليمي مرتبطة بشبكة دعم أوسع تضم روسيا، التي تسعى لزعزعة النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط، والصين التي ترى في خلخلة الهيمنة الغربية فرصة لإعادة تشكيل النظام العالمي بما يخدم مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية.
وإذا كانت واشنطن تراهن على تفكيك محور المقاومة من خلال الحصار الاقتصادي، والعقوبات، والضغوط الإقليمية، فإن طهران تعوّل اليوم على حلفائها الدوليين لخلق توازن ردع لا يُبنى فقط على القوة الصاروخية، بل على عمق التحالفات القائمة بين هذه الدول، هذا التحالف يظهر بعضا من أدواته إلى العلن، فعلى سبيل المثال نجد أن هناك مناورات بحرية مشتركة بين الصين وروسيا وإيران في الخليج وبحر العرب، وتبادلا للزيارات للمسؤولين العسكريين رفيعي المستوى، وصفقات تسليحية غير مسبوقة، وتحالفا سياسيا في وجه الغرب يقود إلى تكامل في المواقف في مجلس الأمن وباقي المحافل الدولية، واتفاقيات اقتصادية كبرى، وتعاونا اقتصاديا استراتيجيا، وتبادلا تجاريا واسعا بين الدول الثلاث، واستخدام العملات المحلية في التبادلات التجارية ومحاولة التخلص من هيمنة الدولار، والتحالف عبر منظمة شنجهاي للتعاون.
ثم نأتي إلى مسألة لا تقل أهمية عما سبق، وهي طريقة هذا التحالف في تشتيت الإستراتيجية الغربية، حيث تدعم إيران روسيا في حربها ضد أوكرانيا، بينما تتحرك الصين في تايوان بما يشكل هاجسا أمريكيا وغربيا من اجتياح صيني محتمل لأحد أهم القواعد التقنية والدفاعية لأمريكا في العالم، ثم يأتي استمرار حرب غزة ودعم المقاومة والصمود التاريخي لأهلها هناك، لتتحول غزة إلى مستنقع مرعب للقوات الغازية، كل هذه الأعمال تشكل أعباء متزامنة ومنهكة على إدارة أمريكا خصوصا والغرب عموما، وتسبب لهما صداعا مزمنا واستنزافا لا يطاق لمواطن القوة لديهما بما يضعف قوة التركيز لكليهما على كل جبهة من هذه الجبهات، ثم إن هذا التحالف يعزز من خطر انزلاق الحرب إلى صراع أوسع بهدف استنزاف الكيان وإيجاد واقع جديد يرسم خريطة ما بعد الهيمنة الأمريكية الغربية، إلى عالم متعدد الأقطاب، هذه وغيرها من مؤشرات التعاون المتنامي، كلها مؤشرات ودلائل على أن الحرب في غزة لا تُخاض فقط بصواريخ القسام، بل أيضًا بترسانة الدبلوماسية والتحالفات العابرة للقارات التي تؤثر في شكلها ومآلاتها وتعيد رسم خريطة القوى في الشرق الأوسط على حساب النفود التقليدي الغربي.