صرخات الموت | جريدة الرؤية العمانية

محمد بن رامس الرواس
في أعماق قطاع غزة، حيث تشتد الأنفاس وتختنق الأزقة برائحة الموت، ترتفع صرخات لا يسمعها أحد إلا من ابتُلي بالعزلة واليأس. هم ليسوا ضحايا حرب عابرة، بل أسرى من جنود إسرائيل، الذين تحتجزهم حركة حماس منذ سنوات، يقبعون خلف الظلال والحديد، بين جدران الصمت وصدأ الإهمال.
يستغيثون، يرسلون الرسائل المصورة والمكتوبة، يتوسلون بأعينهم أكثر مما تفعل ألسنتهم، ينادون حكومتهم التي لا تجيب، ويذكّرون بوجودهم في كل مناسبة سياسية وميدانية، لكن دولتهم تغمض عينيها عنهم وتفتحهما فقط على شهوة القوة وبطش الانتقام.
أولئك الجنود الذين خاضوا حربًا ظنوا أنَّهم سيسطرون فيها المجد، وجدوا أنفسهم رهائن لصفقة مؤجلة، وقضية مؤلمة تتجاهلها السياسة عمدًا. وقد لا تكون معاناتهم جسدية فقط؛ بل نفسية تتآكلهم يومًا بعد يوم. تسأل أحدهم: “هل لا زلت تؤمن بإسرائيل؟” فيصمت طويلاً، ثم تنهار دمعة لا تعرف إن كانت حسرة على وطن أم خيبة في وعد كان كذبة من البداية.
الإعلام الإسرائيلي الذي يُتقن تسويق القصة عندما يُريد، يتعامل مع قضية هؤلاء الأسرى بانتقائية لافتة، فهو يرفع صوت عائلاتهم في مواسم الاحتجاج، ثم يعيدهم إلى زاوية النسيان حين يفرض الواقع السياسي منطقه. الصرخات المنبعثة من غرف الأسر لم تعد تطرق آذان الساسة، بل صارت تُصنَّف كـ”مشكلة تكتيكية” أو “قضية تفاوضية” مؤجلة إلى إشعار آخر.
من جهة أخرى، تمسك حماس بخيوط المشهد كمن يمسك ببطاقة ضغط لا تُقدّر بثمن. تعرف أن قيمة الأسرى تتضاعف في زمن التوتر والانكسار، فتلوّح بهم في كل تصريح، وتحتفظ بهم كورقة في جيب المقاومة. هي لا تنكر أنهم أسرى، بل تؤكد أنهم رمز لمعادلة لن تُحسم إلا بتحقيق شروطها.
إنها صرخات الموت، لا لأن الأسرى يموتون، بل لأن إنسانيتهم تموت بصمت، كل يوم، بلا دواء ولا دفاع، بلا وعد بالحرية، وبلا حكومة تجرؤ على الخضوع للمنطق الإنساني بعيدًا عن الحسابات السياسية.
في النهاية، يتكئ الأسرى الإسرائيليون على جدران أقبية الأسر، في انتظار صفقة قد تأتي أو لا تأتي. وفي إسرائيل، يتبادل الساسة الاتهامات، ويتحدث الإعلام عن “الأمن القومي” و”الردع”، بينما تستمر الصرخات، خافتة، منطفئة، كأنها تقول: “لقد متنا قبل أن نُحرر”.
فهل يسمعهم أحد؟ أم أن السياسة في زمننا هذا لا تملك أذنين لنداءات من لا يحمل أوراق القوة؟
ربما سيكتب التاريخ ذات يوم: “في غزة، كانت هناك صرخات، لكن لا أحد أراد أن يسمع”.