بدر بن خميس الظفري
@waladjameel
من يتأمل وجدان الأمة الإسلامية يجدها تعيش حالة من الحنين الغامر إلى ماضيها، كأنّها تستمد منه هواءها الذي تتنفسه، وترضع من صورِهِ كما يرضع الطفل حليب أمه. وقد تجاوز هذا الحنين حدود الشوق المشروع إلى صورة من الأسر النفسي؛ إذ أضحت الذاكرة الجماعية تحوِّل الماضي إلى معبود صامت، تخلع عليه صفات الكمال وتراه مثلًا أعلى لا يدانى.
قال ابن خلدون: “المغلوب مولع بتقليد الغالب”، غير أن واقعنا المعاصر يشي بعكس ذلك، فالمغلوب عندنا مولع بتقليد الغابر. يقف الناس أمام التراث كما يقف العابد أمام محرابه، يكتفي بالتكرار والاتّباع دون أن يجرؤ على المساءلة أو النقد، حتى غدا التاريخ دائرة مغلقة تدور على نفسها، يبتلع آخرها أولها، فلا حاضر يتجدّد ولا مستقبل يتفتح.
وليس التراث في حقيقته صنمًا من الحجارة؛ بل بناء من الأفكار تشكل في ظروف الزمان والمكان، تفاعل مع السياسة والاقتصاد والمجتمع، وصبغته حوادث الأيام بما فيها من تحولات وصراعات. غير أن فكر الأموات ما زال يحكم الأحياء، وكلماتهم القديمة تسيّر أحوالهم، وكأنّ الحياة توقفت بعدهم. هنا يكمن سر الجمود؛ فالناس يتجنبون مواجهة الواقع بالعودة إلى المقابر الفكرية، ويظنون أن خلاصهم في بعث من مات، بينما الخلاص في أن يولدوا من جديد.
إنّ اللغة الدينيّة، التي يُفترض أن تكون وسيلة للتفاهم، تحولت إلى سلاح للتنافر. يقول الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، مؤسّس منهج التفكيكية وأحد أبرز مفكري القرن العشرين: “اللغة ليست أداة نستعملها؛ بل مادة نحن مكوَّنون منها”. ويضيف عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي بيير بورديو، أحد أبرز منظّري البُنى الرمزية في الفكر الحديث، أنَّ “الكلمات تصنع الأشياء إلى حدٍّ كبير، وأنَّ تغيير الكلمات وتغيير التمثيلات هو بالفعل طريقة لتغيير الأشياء، والسياسة جوهريًّا هي مسألة كلمات”. لهذا فحين تتسمم الكلمات تمرضُ الأرواح.
لقد أصبحت الألفاظ التي كانت تُستعمل للدعاء تُستعمل اليوم للعن، والتعابير التي وُضعت لتوصيل الفكر أصبحت تُستخدم لترويج التعصُّب. اللغة ليست بريئة، لأنها تحمل ذاكرة الأمم بكل ما فيها من صراعات وموروثات. ومن هنا وجب تهذيب اللسان كما تُهذَّب النفس؛ لأن الكلمة قد تزرع زهرة أو تشعل حربًا. قال سقراط لتلميذه: “تكلّم حتى أراك”، ومن يتحدث اليوم في فضائنا العربي يُرى في الغالب متجهمًا وغاضبًا ومسكونًا بروح النفي والإقصاء.
أما التفسير الديني، فطالما وقع أسير الصيغ الجاهزة التي وُلدت في عصور القوة، ثم تحجَّرت في عصور الضعف. كرَّس المتأخرون من الفقهاء تفسيرات السّلف، فحوّلوها إلى حدودٍ لا يجوز تجاوزها، حتى خبا وهج الاجتهاد الذي كان في بداياته مصدرَ حياةٍ للفكر وتجديدٍ للمعرفة. ومع مرور القرون تحولت كتب الأصول إلى سلاسل تقيّدُ العقول، حتى صار التفكير خارجها مغامرة تُعد خروجًا عن الجماعة. والقرآن الذي وصفه الإمام علي كرّم الله وجهه بأنه “ينطق بما في القلوب” لم يعد يُقرأ بعيون القلب؛ بل يُتلى كما تتلى الوثائق الرسمية. كل نص مقدس يتسع لألف معنى، كما أن السماء تتسع لألف نجم، غير أن القراءة الجامدة تطفئ هذا الضوء، وتحوّل الإيمان إلى جدار يفصل بين الإنسان ونور ربه.
وحين يضيق الأفق وتُختزل الروح، ينشأ التديّن الذي يمجّد الموت ويزدري الحياة. يُقال للناس إن طريق الجنة يمر عبر كراهية الدنيا، فيتحول الدين إلى نشيد جنائزي يعلّم الناس كيف يموتون ولا يعلّمهم كيف يعيشون. إن الحياة، في جوهرها، أمانة إلهية تستحق أن تُصان وتُنمَّى. يقول الشاعر والفيلسوف الهندي رابندرانات طاغور: “إذا أغلقتم كل أبواب الخطأ، فلن يدخل إليكم الحق”. إنّ الإيمان الواعي يفتح نوافذ الفكر، ويجعل من التأمل طريقًا لمعرفة الله، ومن العقل نورًا يهدي الإنسان إلى أسرار الكون.
إنَّ الكراهية لا تولد من فراغ؛ إنها ثمرة فهم ضيق للوجود وللنص، حين يتحول الدين إلى هوية سياسية، والإله إلى راية حزبية. عندئذٍ يغيب المعنى الروحي، وتُستبدل الرحمة بالشعارات، وينقلب الإيمان إلى سلاح في وجه المختلف. وقديمًا قال المسيح عليه السلام: “من لم يُحب أخاه الذي يراه، كيف يُحبّ الله الذي لا يراه؟”. من هذه الزاوية يمكن القول إنّ الكراهية هي مرض في البصائر قبل أن تكون في الضمائر.
ولا سبيل إلى الشفاء إلّا بالموقف النقدي الذي يوقظ العقول من سباتها. الفكر الديني لا يتجدد إلا حين يعترف بإنسانيته، ويدرك أن فهم النصوص عمل بشري متغير، وأن الله أكبر من كل تأويل. لقد حان الوقت للاقتراب من التراث لا كعبء نُجرّه خلفنا؛ بل كمنجم ننتقي منه ما ينفع الحياة. فكما يفتش الكيميائي في المعادن ليصنع الذهب، ينبغي أن نفتش نحن في الموروث لنستخلص جوهره الإنساني. كتب المفكر المصري الإمام محمد عبده: “إن الدين في جوهره روح الحياة، لا وثائق الموت”، وهي كلمة صادقة في زمن اختلط فيه الإيمان بالتعصب.
يظهر الإسلام في معناه القرآني دعوةً مفتوحة للعقل والوجدان، ومسارًا يوسّع آفاق الحرية ويُضيء مسالك القلب. قال الله تعالى: “لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ” (البقرة: 256)، وهي آية تُرسّخ مبدأ الاختيار، وتدعو إلى نبذ العنف في كل صوره. ويصف القرآن الكريم وظيفة النبي بأنها التذكير والتبشير والرحمة، فهو صوت الهداية لا أداة القهر، كما جاء في قوله تعالى: “فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ” (الغاشية: 2122). والحرية التي نادى بها الوحي هي حرية القلب من الخوف، وحرية العقل من التبعية، وحرية الإنسان من الكراهية.
وحين يُدرك الإنسان جوهر هذا المعنى، يغدو الدين طاقة حبٍّ تبعث الحياة في القلوب، ويصبح التراث ذاكرة تفتح الطريق أمام النور والتجدد. والقدرة على نقد الماضي هي الخطوة الأولى نحو بناء المستقبل. فالكراهية نتاج فكرٍ معطَّل يمكن تجاوزه بالعقل الواعي وبالعودة إلى الجوهر الإنساني للإيمان. قال العقاد: “العقل كالسيف، يصدأ بالركود ويضيء بالاحتكاك”، والعقل العربي اليوم أحوج ما يكون إلى ذلك الاحتكاك ليُشفى من صدأ القرون، ويستعيد صفاءه في مواجهة عتمة الكراهية.
