د. محمد بن عوض المشيخي **

 

إدمان المنصات الاجتماعية والاطلاع على مضامينها المختلفة، أصبحت ظاهرة إنسانية لدى معظم أفراد المجتمع؛ فالهاتف الذكي تحول إلى الصديق والجليس الذي لا غنى عنه؛ سواء في مجال اعتباره جهازًا لاستقبال المضامين الإعلامية، أو باستخدامه كمنصة لمخاطبة الآخرين والتعبير عن ما يدور في الأفئدة والخواطر، وليس بالضرورة هنا أن تكون تلك الرسائل الاتصالية التي تخترق البوابات بدون حواجز تذكر، ومرحبًا بها من الجميع لكونها تحمل الغث والسمين من الأفكار.

العالم الافتراضي الذي نعيش فيه جعل من وسائل التواصل الاجتماعي مرتعًا للإثارة والترويج ونشر المضامين الهابطة إلى حدٍ كبير، ومن المُؤسف جدًا أن نجد قاعدة عريضة من الناس قد تفاعلت مع ما يقدمه هؤلاء المؤثرون على المناصات الرقمية، وإن كان معظم الجماهير يتفاعلون من باب الفضول والتسلية فقط، وذلك لكونهم قد تعودوا على مثل تلك الرسائل بشكل يومي. صحيحٌ أن هناك من الفئة المثقفة من الجماهير التي تختار الفكر والمعرفة ذات الطابع العلمي في المواقع الإلكترونية التي ترتقي بالوعي والتثقيف، فتُرحِّب بكل من يطرق أبوابها، لكونها تميزت بمخاطبة العقل وإنتاج المعرفة لمن يرغب بالاستفادة منها؛ وعلى وجه الخصوص العلماء وكتاب المحتوى الفكري. وعلى الرغم من ذلك نجد الكثير من الناس قد أنفض من حول تلك القامات الفكرية واختاروا المهرجين والمُسوِّقين للوهم وضحالة الفكر، فنجد على سبيل المثال أن المُفكِّرين تقل أعداد الذين يتابعون حساباتهم، وبالطبع على الجانب الآخر تتضخم الأرقام في حسابات عالم المشاهير المتوغلين في أعماق شبكات التواصل الاجتماعي وزواياها الواسعة الانتشار، والذين نجحوا في سحب البساط من وسائل الإعلام التقليدية والمثقفين على حد سواء؛ مما ترتَّب على ذلك الاستحواذ على شبكة الإنترنت وشبكاتها المختلفة؛ حيث يمتهن هؤلاء المشاهير بث ونشر الإعلانات التجارية والترويج للعلامات التجارية والماركات العالمية، وذلك كرسائل مدفوعة الثمن، بينما تغيب التوعية عن الساحة.

هناك ارتباط مباشر بين المشاهير في المنصات، خاصة الذين يحظون بمئات الآلاف من المتابعين؛ بل هناك من تجاوز المليون متابع هنا في السلطنة، وعلى وجه الخصوص منصة إنستجرام، وإن كانت أعدادهم لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، وتجد بعضًا من هؤلاء المشاهير سبق لهم أن مارسوا العمل الإعلامي أو التمثيل أو البعض كان ضمن نجوم المنتخب العُماني لكرة لقدم مثل الكابتن علي الحبسي، وربما كانت لهم شهرة في مجال آخر قبل الولوج إلى العالم الافتراضي، لكي يعمل في هذا المجال المُربح والذي يعتبره البعض وظيفة لمن لا حرفة له، وذلك انطلاقًا من قلة الجهد المبذول في إنتاج محتوى مُرضٍ ومُنافس، بدلًا من الأسلوب المتعارف عليه بالوقوف أمام الكاميرا وترديد كلمات تفتقد إلى الإبداع والطرح المقنع.

وتبلغ التكلفة التقديرية للمشاهير في السلطنة بداية من خمسين ريالا عُمانيا للمنشور على إنستجرام للذين يحظون بعشرة آلاف متابع وأقل، بينما تصل إلى 2000 ريال عماني بالنسبة للنجوم، للمنشور الواحد! وهناك من يعترف بعض هؤلاء المؤثرين؛ بأن دخلهم يقدر ما بين 3 5 آلاف ريال عُماني في اليوم، وذلك للذين نجحوا في استقطاب مئات الآلاف من المتابعين. وعلى الرغم من سهولة عمل المشاهير وجني المبالغ الطائلة من الترويج والإعلانات التي تأتي لهم مباشرة أو من خلال وسطاء كالوكالات المتخصصة في هذا المجال، إلّا أن هناك أثمانًا باهظة تُدفع في المقابل لا يدركها إلا أصحاب العلاقة؛ فهناك من يحسدهم في الوصول إلى تلك الأرقام الفلكية من المال. ولعل التوتر والقلق والمضايقات والنقد والمنافسة من الأصدقاء والأرق من أبرز ما يتعرض له المشاهير، فقد أعترف 68 بالمائة من المؤثرين والمشاهير الذين خضعوا لدراسة علمية دولية مؤخرا بتعرضهم للتنمُّر الإلكتروني، والإساءة العائلية وانتهاك أجمل ما يملكه الانسان وهي الخصوصية والحرية الشخصية. وهذه الحقائق كانت بالفعل غائبة عن كثير من الناس، من هنا يجب التأكيد على أن صناعة المؤثرين تخضع للعديد من المعايير المُهمة والضرورية، ولا يمكن أن يصبح الشخص مشهورًا بين ليلة وضحها؛ بل يحتاج الأمر إلى العديد من المهارات والامكانيات الأساسية، بعضها يأتي بالتدريب والخبرة، والبعض الآخر بوجود موهبة حقيقية تُمكِّن من يدخل هذا المجال من الصمود والمنافسة أمام هذا الكم الهائل من رواد التواصل الاجتماعي. والذي يجمع بين الإبداع الموروث والصقل واكتساب المهارات وهو بالفعل الذي سوف يحقق الغاية من الوجود في المنصات الرقمية؛ والأهم من ذلك كله فهم عمل خوارزميات وأسرار شبكات العالم الافتراضي والتي هي عبارة برمجيات وقواعد لتحديد المضامين الأكثر ظهورا؛ والقائمة بالدرجة الأولى على الاهتمامات ورغبات الجمهور المستخدم. كما أن المصداقية وجودة المحتوى المعبرعن الجمهور المستهدف والذي ينطلق من الدراسات العلمية للمرتادين للمنصات الرقمية من حيث الخصائص والأذواق والفئات العمرية للجمهور المستهدف، وكذلك التفاعل المباشر مع المتابعين من أهم أبجديات النجاح في وسائل التواصل الاجتماعي.

وفي الختام.. هناك من ينظر للأعداد الكبيرة التي تتابع حسابًا مُعينًا من المنصات الرقمية ويعتبر ذلك مؤشرًا على التأثير الحقيقي على الجمهور، ولكن في واقع الأمر هناك من يشتري المتابعين الوهميين، فإذا كان الحساب مسجلًا أكثر من 20 ألف متابع مثلًا، بينما من يتفاعل مع المحتوى المنشورأو يسجل إعجابه أقل من مائتي شخص فقط، فهذا يشير إلى وجود مشكلة معينة تتعلق بالمصداقية وحقيقة الأرقام التي تظهر في حساب المؤثر.

** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري

شاركها.