مُزنة المسافر

 

ميلي ميلانًا ليس فيه عودة، وكوني هنا الأفعى، التي تأبى أن تُراقص الوصيفات، فأنتِ حاملة للسم والسكاكين يا آبيب، وقلبكِ موجوع من القفص، اخرجي حُرة، امضي في بلاط قصر يُناشد بالعظمة، هُزي قوارب الذاهبين للنهار وعودي فقط بعد أن تبتلعي قرص الشمس كله ويصير ذاك الكسوف.

الدجاجات تصدح بعد الديك، تُغنِّي للنهار الطويل، وتتحرك في خفة الماكرين حول رِجل نعيمة، ونعيمة منشغلة تغسل الأثواب في وعاء حديدي، بينما نوسة تضع الملابس فوق حبل الغسيل.

عقلها مُنشغل بأمور كثيرة، هل حول المدينة العريضة هذه المرة؟ أم حول فسحة للقرية القريبة؛ حيث تقطن أخت لوزة الكبرى، تريد أن يكون لها صديقات، وأن تنشغل هي بأمور البنات تلك.

النهرضة الجمعة، والرجال عادوا من الصلاة، بينما نوسة تفكر كيف تعيش الجمعة، هل بهروب كبير يجعلها تذهب بعودها وحيدة إلى قرية مجاورة أو إلى مكان ليس فيه بستان وإنسان.

وضعت منديل أبو أُوية، وخرجت متبخترة نحو باب منزل العريش.

نعيمة: على فين؟

نوسة: مخنوقة، عايزة اتنفس!

من خنقكِ؟ أنتِ الآن الكل في الكل، عيون الأكابر على جمالكِ ودلالك، وقلوب الصبيان مأسورة ببخترتك، والبنات يتمنين لو يتمايلن تمايل وسطك في جلابية تلمع لمعانًا غريبًا، يدك بها صيغة، والذهب يكون له أفضل الألق على بشرتك القمحية، لم ترغب شمس الحقول أن تحرق وجنتيكِ، لقد حرقت أعصاب نعيمة ألف مرة، وفعلت فعلها حتى شعرت بالغيرة.

وهل تغار منكِ نعيمة وهي والدتك التي أنجبتك من ظلام الرحم، أم هي غيرة الجارات العابرات أمام منزل العريش، إنهن يثرثرن حولك وحول رمزي بيه.

رمزي يقرأ بعض الأوراق المتعلقة بشركة العائلة، يختم البعض، يوقع ويمضي إمضاءً سريعًا أمام مدبولي الذي يقدم له الأوراق على منضدة خشبية أنيقة في مكتب السراي.

رمزي: انتهينا اليوم يا مدبولي.

مدبولي: حاضر يا بيه.

رمزي: حضر حصاني، سأذهب للحقل.

مدبولي: أمرك يا بيه.

رمزي: أين هي نوسة؟

مدبولي: لم تأتِ اليوم، النهرضة الجمعة.

نسي رمزي أنَّها الجمعة، وأنه يوم الراحة، هل تنام فيه نومًا أفضل من نومها أسفل أشجار البرتقال، هل تجد الأحلام التي لن تتحقق في عقلها؟ عليه أن يوقف كل حلم يخصها، إنها رقيقة أمام العالم المتوحش، لا بُد أن يأسرها ويجعلها تراه والحقل ومنزل العريش حتى تكبر ويقرر إن كانت عروسه التي ستدخل السراي في صباحية مباركة.

تمشي نوسة وحيدة، وتنادي عليها عروس النيل وتتبع خطواتها.

عروس النيل: إنه يفكر بكِ كثيرًا.

نوسة: من؟ رمزي؟

عروس النيل: ومن غيره!!

نوسة: لكنني أُفكر في الخروج من هنا، أشعر أنني مخنوقة.

عروس النيل: إلى أين ستذهبين؟

نوسة: ربما إلى المدينة.

المدينة ستبلعكِ يا نوسة، وسط سكانها وآهاتها، وليلها الذي ينتهي بسرعة، وهناك يا نوسة ستضيعين ضياعًا كبيرًا ليس فيه عودة، ورمزي ينادي باسمك ويشيد برسمك وأنتِ الحلوة التي تحرك فؤاده يمنة ويسرى، فيصير هو نيلٌ جديد ينبع ويصب أينما تشائين.

مدبولي يرافق رمزي نحو باب السراي، يسأل رمزي إن كان بإمكان مدبولي أن يجد نوسة ويطلب منها أن تأتي إلى هنا.

إنها لا تسمع الكلام، إنها تغيرت يا رمزي، تميل للوحدة، تشعر بالغربة، لقد بات عودها يكبر، وأفكارها تثمر، وعيونها تنادي بالجوى وذاك الهوى.

إنها قد تشعر بالحب…

الحب، حبك أنت ربما، لقد أعطيتها من حنانك، وقدمت لها كل الصيغة التي في يدها، بجانب تمنياتك لها الكثيرة، وكل سنة وهي طيبة، وروح قلبك عطشانة لوجدها، انتظر حتى تأتي ستقول لك أنها ممتنة لك يا بيه.

نوسة هنا، وعقلها في ضياع كبير، وانزعاج له ألف تفسير، كسر الصمت باقتراحه أن يذهبا للجنينة إنها هادئة وقد تكون سببًا أن يتكلم رمزي عن الطقس والهواء العليل والربيع الجميل، وعن أمله في أن تكبر الشركة، وأن يصير له حقول أخرى، وعن مال وشهرة وبستان وثروة، لكنها بقيت صامتة.

رمزي: مالكِ يا نوسة، في حاجة؟

نوسة: مفيش.

رمزي: إزاي، انظري لوجهكِ تبدين متضايقة من شيء يا حبيبتي؟

نوسة: لقد اختنقت يا رمزي، حبك يخنقني!

رمزي: كيف يا حبيبتي، إننا نعرف بعضنا منذ زمن بعيد.

زمنك أنت يا رمزي، أين زمني وسط أيامك؟ أنا أكبرُ وسط خصومك وحروبك ومعاركك التي لا تنتهي، إنك تهجر الجميع لتصبح في أعلى قمة، بينما السفح يخنقني، لم أعد أقدر على التنفس يا رمزي، قف وسط ماضينا وناولني جزءًا من مشاعري ليكون لي قصة تخصني وقد تكون هذه القصة قرب النيل في المدينة العريضة.

شاركها.