مُزنة المسافر

 

هل من مماطلين للرحيل للآخرة؟، التابوتُ جاهزٌ، والقلب عابسٌ أن يغادر، والعيون بكت وصاحت للروح التي طارت، وهل طارت الروح فعلًا؟ أم أخفت نفسها أسفل صمغ المحنطين، وأي شهد سيروح فوق جبين المحبين، والوداع قد صار وأحدث شقه الأخير.

هل تسللت نوسة إلى منامك وعقلك يا رمزي؟ ودخلت إلى كل أحلام اليقظة، ونامت هناك على وسادة الأفكار، وربما قربت نفسها من أذنيك، وهمست لك أنها تحبك حبها القديم، لكنها ربما تحب الحرية أكثر منك يا رمزي.

وعقلها ينتظر قدوم الفرج، لأنك تهدد وتندد ببستانك وسلطانك، متى سينتهي هذا الظلام؟، ويعود نور الناس إلى أبدانهم، إنهم باتوا كالمُميَاوَات بأفئدة معتصرة وعيون غائبة عن الحياة.

وهل ستحنِّط نوسة نفسها بتابوت يأخذها لأقرب آخرة؟

وستصير بجسد ممد على سرير الغياب.

وكيف يا رمزي ستجعلها تجري للموت والعمر لم ينتهِ بعد.

رمزي بيه يشعل سيجارة في المكتب، لم يدخن منذ فترة، ودخان التبغ يقترب من أنفاسه المتضايقة من كل شيء، شعره يلمع لمعانًا جميلًا أسفل فتيل المصباح، ويخرج هو لاستنشاق الهواء في الجنينة.

لقد أخبره مدبولي أنه سمع من أطفال القرية أن نوسة ولوزة ستذهبان للمدينة الليلة، يا للوقاحة؟! ما الذي صار لأهل الكار؟ إنهم يذهبون مع أول تذكرة قطار متوفرة، لكنها ليست كباقي الفلاحات، إنها التي حرثت بذور كل مشاعره، ووضعت جذورًا لعمرهما معًا، فأين هي ثمار الحب الآن؟

صوت القطار يتكرر في عقل رمزي، هل سككه الحديدية جميعها تعرف نوسة؟، فلتعود إلى قلبه وعينه عودة حميدة، لتكون في أيامه مجيدة.

 نوسة تقتل كل ناموسة تقترب منها، عينها تبكي لأنها ستغادر القرية، إنها ستشتاق إليها، ستمضي بعيدًا عنها، سترحل مع لوزة للمدينة العريضة، وسيعبران كل أيام الحياة من هناك، تجهز نوسة حقيبة جلدية صغيرة، ولوزة تسألها عن التجهيزات الأخيرة.

لوزة: كل الأمور جاهزة يا نوسة؟

نوسة: نعم بالتأكيد.

لوزة: ورمزي بيه يا نوسة؟

نوسة: ماله رمزي بيه؟

لن يسكت رمزي لهروبك الكبير، وهل له حضور في هذا الوداع؟، إنه قادمٌ بحصانه وهيبته، يقف في التو بقوة خفرع، انظري لشبابه وقوامه إنه يخيف الدنيا كلها دون استثناء.

فكيف تهربين يا قُرة العين؟

وتغيبين عنه لأيام ودهور لن يرى فيها نور قلبك.

حصانه يصهل، وقلبه يخفق خفقانًا قد يسمعه كل الجيران، وقبل أن تفتح لوزة الباب لتسأل: مين؟

رمزي: افتحي يا لوزة، أنا رمزي بيه!

لوزة: يا خرابي!

 

هذا بالفعل الخراب والزوال أو الفوضى والجلبة، والزعيق وسط رحيق العمر، غابت نوسة، راحت في دقائق معدودة، ربما للسطوح أو لأقفاص الحمامات النائمة لكنها راحت للطريق الترابي المؤدي لمحطة القطار.

وقف حصانه فجأة أمام تمردها.

رمزي: ماذا دهاكِ يا نوسة؟

فوقي لنفسك، عقله كالحجر وقد وقعتِ وقوع الضائعين يا خبر! وما من سائلين، إنه سيحبسكِ في السراي حتى لا تهربين.

الطبلة دقَّت والناي نادى على الأحباء في القرية أن يأتوا ليروا نوسة وهي محبوسة في دنيا رمزي بيه، هل سيجلب لها لبن العصفور كما وعدها في تلك الطفولة؟

لكنها خيبت آماله، وأرادت أن تغيب دون أن تقول له الوداع، يا له من ضياع يا نوسة، وماذا ستقول الناس؟، هل انكسر عودكِ أمام ابن البيه الكبير؟

صدحت نعيمة حين حكت لها لوزة ما حصل وخافت من الفضيحة، ما الذي جلب النحس إلى منزل العريش، نوسة في السراي مع ابن البيه الكبير، يا لخيبة الضمير وماذا ستقول الناس حين تعرف أنها تقطن ليالٍ غريبة في السراي.

وكيف ستقول هذا الكلام لعبد الرؤوف؟

لن تقول شيئًا، ستكتفي بالصيام عن الحروف.

نوسة تنام على سرير مريح، تُفيقها عروس النيل وهي تهمس لها: قوم يا جميل!

نوسة: أين أنا؟

عروس النيل: في السراي، ماذا فعلتِ يا مجنونة؟

نوسة: لا أعلم، صرتُ أخشاه، وفكرتُ أن أذهب لأي مكان غير قريتنا.

ومن قال إن المدينة ستناديكِ يا نوسة؟، إنه هنا يراقب روحكِ التي تحملها الريح بعيدًا عنه والدنيا لم تعد أمورها وردية، والعالم شريعته الغاب، وليس فيه من الأحباب غير ربما رمزي بيه.

شاركها.