عبدالنبي الشعلة

 

سبق لي أن ذكرت، في أكثر من مقال، أنني عند زياراتي المتكررة لإسبانيا، أحرص على زيارة واحد من مراكز الإشعاع الحضاري الأندلسي، ولاسيما في قرطبة أو غرناطة.

وفي زيارتي الأخيرة قبل أيام قليلة، كانت زيارة قرطبة أمرًا مُلحًّا نابعًا من رغبتي في الاطلاع بشكل مُباشر على حجم الضرر الذي لحق بمسجدها الشهير نتيجة الحريق الذي شبّ فيه مع بداية الشهر الماضي. فهذا المبنى الكبير ليس مجرد أثر تاريخي، بل هو أحد أبرز المعالم المعمارية في العالم، والمدرج على قائمة التراث العالمي لليونسكو.

إنَّ مسجد قرطبة، أو الجامع الكبير، هو جوهرة معمارية فريدة، شيدها الأمراء والخلفاء الأمويون بين القرنين الثامن والعاشر، ثم خضع لتوسعات متتالية على مدى أربعة قرون، حتى بلغت مساحته الإجمالية 23 ألفًا و400 متر مربع، وطاقته الاستيعابية بلغت أكثر من 80 ألف مصلٍّ في ذلك الوقت.

وكان جامع قرطبة مكانًا للعبادة، ومركزًا للعلم والإدارة، ومقرًّا للسلطة والحكم، ودارًا للعدل والقضاء. وفي حرمه كانت تتم مراسيم أخذ البيعة للخلفاء، ومن فوق منبره كان يُعلن عن القوانين والمراسيم الجديدة، ويُعلَن عن المناسبات الدينية ويُحتفل فيه بالخروج في حملات الجهاد. كما كان الشعراء يُلقون قصائدهم في الساحات الخارجية للمسجد، وقد ظلّ لقرون طويلة مركزًا للعلم والمعرفة، وتخرّج فيه كوكبة من كبار العلماء المسلمين الذين أثروا الحضارة الإنسانية.

ولحسن الحظ، فإن الحريق الذي شبّ فيه انحصر في منطقة محدودة ضمن “أروقة المنصور”، وقد نجحت فرق الإطفاء في السيطرة عليه بسرعة، ورأيت بعيني عمّال الصيانة يقومون بعمليات الإصلاح والتنظيف والترميم بكل حماس وجدية، في مشهد يعكس حرص الإسبان على صون هذا الإرث الإنساني العظيم. ولله الحمد، لم يكن الحريق نتيجة “فعل فاعل”، بل كان قضاءً وقدرًا بسبب احتراق أحد أجهزة التنظيف في المخزن الكائن أسفل الموقع المتضرر.

لقد عمّت موجة من القلق والحزن قلوب الإسبان، ومعهم ملايين ممن زاروا المسجد وارتبط وجدانهم بهذا الصرح العظيم. فالصور التي تناقلتها وسائل الإعلام، والتي أظهرت الدخان والنيران تتصاعد من الجامع، كانت صادمة ومؤلمة لكل من يعرف قيمة هذا المكان. إلا أن الجميع استبشر واطمأن على سلامة “منطقة المحراب”، التي تشكل أهم وأروع وأجمل منطقة في المسجد، حيث يرتفع المحراب على قاعدة رخامية، وقد صُمّم على شكل تجويف سباعي الأضلاع مطليٍّ بالذهب، ومزيّن بآيات من القرآن الكريم، ومزخرف بالفسيفساء وبقطع من الرخام. ويعلوه رباط من الأعمدة الرشيقة والعقود المزينة، تتربع فوقها قبة فخمة زخرفت بالفسيفساء البديعة أيضًا. وأمام هذا الإنجاز الفني المتقن، يتسمّر السُّياح وزوار المسجد، بمختلف معتقداتهم الدينية، في ذهول وخشوع وإعجاب.

وفي أحاديثي مع بعض الإسبان في قرطبة وخارجها، وجدت أنَّ هذا الحدث الأليم أيقظ فيهم مشاعر الفخر بامتلاكهم مثل هذا المعلم التاريخي الفريد، كما جدّد إحساسهم بالحرص والغيرة على ما تبقّى من معالم الحضارة الأندلسية العربية الإسلامية في بلادهم. تلك الحضارة التي جعلت من الأندلس، وفي قلبها قرطبة، منارة للعلوم والفنون والمعارف في أوروبا والعالم.

واليوم، أصبحت أطلال ومعالم تلك الحقبة من أهم المرافق والأصول التراثية التي يعتز بها الإسبان، وركيزة أساسية للسياحة التي تجذب عشرات الملايين من الزوار سنويًا، وتدرّ مليارات الدولارات على الاقتصاد الإسباني، وتوفّر ملايين فرص العمل. وهنا يبرز البُعد الاقتصادي الملموس للحضارة، بوصفها موردًا متجددًا لا يُقدّر بثمن.

وإلى جانب الفخر الذي يبديه الإسبان تجاه هذا التراث، فإن الضمير الجمعي لديهم لا يخلو من شعور بالندم والأسف لما أقدم عليه أسلافهم من محو وتدمير لمعظم المعالم الإسلامية بعد سقوط الأندلس، مع إدراكهم أن ما حدث كان جزءًا من سنن التاريخ وأعراف العصور القديمة، حيث اعتاد المنتصر أن يطمس آثار المهزوم. وبذلك تحوّلت معابد الإغريق إلى كنائس بعد اجتياح المسيحية، ثم تحوّلت بعض الكنائس إلى مساجد حين دخل الإسلام، وعادت المساجد إلى كنائس بعد خروج المسلمين من الأندلس. وهكذا تعاقبت وتسابقت المعتقدات على التربّع في المواقع المهيمنة.

ومن هذا المنظور، فإن مسجد قرطبة يبدو لوحة حيّة لمسيرة الإنسان في بحثه عن الإيمان وتواصله مع الخالق عبر العصور. فقد وقف الوثنيون هنا أولًا يتعبدون في معبد روماني، ثم أُقيمت على أنقاضه “كنيسة القديس فنسنت” بعد دخول المسيحية، ثم جاء المسلمون فشيّدوا المسجد الكبير، وأخيرًا عاد المسيحيون فاحتفظوا بهياكله، وأقاموا في قلب حرمه “كاتدرائية سيدة الانتقال”. وهكذا ظلّ هذا المكان محتفظًا بقدسيته في وجدان المؤمنين على اختلاف عقائدهم.

إن وجود الكاتدرائية المسيحية الكاثوليكية في قلب حرم المسجد الكبير، محاطة بالأعمدة والأقواس والآيات والزخارف الإسلامية، هو تجسيد بليغ لتداخل العمارة الإسلامية والمسيحية، ورمز حيّ لتراكم التراث الإنساني المشترك. فهو يعكس ترابط الوشائج الروحية بين البشر، ويجسّد التمازج والتقاطع بين المعتقدات والحضارات.

إنَّ ما جرى لمسجد قرطبة من حريق مؤسف، على محدوديته، يذكّرنا بأنَّ التراث الإنساني المشترك هو ملك للبشرية كلها، وليس حكرًا على أمة أو دين أو قومية. لذلك، فإنَّ صونه ورعايته مسؤولية جماعية، تستوجب وعيًا عالميًا يعلو فوق النزاعات الدينية والسياسية.

فمسجد قرطبة ليس مجرد مبنى أثري، بل هو شاهد على أن البشر، رغم اختلاف عقائدهم، قادرون على أن يتركوا وراءهم إرثًا حضاريًا واحدًا، يتقاطع فيه الجمال والفكر والروح. وإذا كان الحريق قد ألحق ضررًا بجزء منه، فإنَّ الرسالة الأعمق تبقى أن هذا الصرح ما زال صامدًا، يوحّد بين الذاكرة الإسلامية والمسيحية، ويروي قصة الإنسان الباحث عن الرحمة والمغفرة عبر الزمان.

من هنا، فإنَّ الحفاظ على مسجد قرطبة وأمثاله من المعالم، ليس فقط حفاظًا على تراث المسلمين أو الإسبان، بل هو دفاع عن القيم الإنسانية الكبرى: التسامح، التعايش، والقدرة على تحويل التاريخ من ساحة صراع إلى جسر تواصل بين الحضارات.

شاركها.