سميرة أمبوسعيدية
الضميرُ هو الصوتُ الخفيُ الذي يميِّز الإنسانَ عن سواه، إنَّه الرقيبُ الداخلي الذي يردعُ الظلمَ، ويحرِّك الرحمةَ، ويُبقي في القلبِ نبضًا من الإنسانيةِ. لكن في زمننا، كثيرًا ما نشهدُ تراجعَ هذا الصوت حتَّى تلاشى في قلوبِ بعضِ البشر، فصار القتلُ عاديًا، والظلمُ يُبرَّر، وقهرُ الفقراءِ يُبرَّر بالصمتِ أو المصلحةِ.
موتُ الضميرِ ليس مجردَ تعبيرٍ أدبي، بل هو وصفٌ دقيقٌ لحالةٍ إنسانيةٍ خطيرةٍ تُهدِّدُ جوهرَ وجودنا. فقد غابت الرحمةُ في ميادين الحروبِ، وسُفِكت دماءُ الأبرياءِ دون شفقةٍ، وبِيعَ العدلُ في سوقِ المصالحِ، فأصبح الإنسانُ مجردَ رقمٍ أو ضحيةٍ هامشيةٍ.
كم من طفلٍ فقدَ أهلهُ دونَ ذنبٍ؟
وكم من فقيرٍ دهستهُ عجلةُ الجشعِ؟
وكم من مظلومٍ صرخَ في الظلامِ… ولم يسمعهُ أحدٌ؟
موتُ الضميرِ يجعلنا نرى الظلمَ ونصمتُ، ويجعلُ بعضهم يقتلُ ويبتسمُ، ويستغلُ ويبرِّرُ، ويخونُ ثم يرفعُ رايةَ الشرفِ.
عندما أتحدَّث عن موتِ الضميرِ ماذا يبقى..
أتحدَّثُ هنا عن غزَّةَ العزَّة.
غزَّةُ… وجعٌ لا يراهُ العالمُ
غزَّة تنزفُ..
ولم تعُد تملكُ ما تبكي عليهِ،
كلُّ زاويةٍ فيها تحملُ شهيدًا،
وكلُّ حجرٍ فيها يُنادي: “كفى صمتًا!”
أطفالها ينامونَ على أصواتِ القصفِ،
يستيقظونَ على فقدانِ الأحبَّةِ،
ورغمَ ذلك… يرفعونَ رؤوسَهم بالعزَّةِ التي سُمِّيت باسمِهم.
العالمُ يَرى… ويسمعُ… ويصمتُ،
صمتهُ ليس حيادًا، بل خيانةً.
فالصامتُ عن الظلمِ… شريكٌ فيهِ.
من غزَّةَ تُكتبُ الكرامةُ بالدمِ،
ومن أوجاعِها تُفضَحُ إنسانيةٌ مزيَّفةٌ، والمؤسفُ في زماننا هذا
يتحدثونَ عن حقوقِ الإنسانِ…
لكنهم يصمُّون آذانَهم عن أنينِها.
الضميرُ هو النبضُ الأخلاقيُ في قلبِ الإنسانِ، صوتُ الخوفِ من الظلمِ، وصرخةُ الرحمةِ حين يصمتُ العالمُ. لكنه في هذا الزمانِ يُحتضَرُ، بل ربما ماتَ عند الكثيرينَ، فصارَ القتلُ رقمًا في الأخبارِ، والجوعُ مشهدا مُعتادا، والدموعُ لا تثيرُ سوى تقليبَ صفحةٍ..
في زوايا هذا العالمِ، تجدُ أطفالَ غزَّةَ يموتونَ من الجوعِ تحتَ أنقاضِ منازلِهم، وشيوخٌ ينامونَ على أرصفةِ القهرِ دونَ مأوى أو دواءٍ.
كل هذا، والعالمُ يُديرُ وجههُ… وكأنَّ لا شيءَ يحدثُ.
موتُ الضميرِ جعلَ بعضَهم يبتسمُ وهو يُشعلُ حربًا،
ويضحكُ وهو يُوقِّعُ على قرارٍ يُشرّدُ الآلافَ.
كأنَّ الدمَ البشريَ صارَ أرخصَ من الماءِ،
وكأنَّ صرخةَ أمٍ على طفِلها، مجردُ ضجيجٍ عابرِ لا يُقلقُ أحدًا.
*صورٌ موجعةٌ نراها كلَّ يومٍ
جنديٌّ يلتقط “سيلفي” أمامَ جُثَثِ الضحايا.
طفلةٌ تهمسُ لأخيها الجائعِ: “نم… ربما تحلُمُ بالطعامِ”.
عينُ فقيرٍ تلمعُ بالدمعةِ، لا يطلبُ شيئًا سوى “العدلِ”.
كلُّ هذا ولِدت معه نتائجُ سلبيةٌ وأصحبت راسخةً في عقولِ الجهلاءِ….
تبلَّدَ الشعورُ العامُ، وغيابُ الغضبِ تجاهَ الظلمِ.
قبولُ الباطلِ كواقعٍ لا يمكنُ تغييرهُ.
فقدانُ المعنى الحقيقي للإنسانيةِ.
موتُ الضميرِ لا يحدثُ فجأةً… بل حين نُبرِّر، ونتجاهلُ، ونسكتُ.
حينَ نُشاهدُ المأساةَ ثم نكملُ يومنا كأنَّ شيئًا لم يكن.
فيا غزَّةَ العزَّةِ…
صوتكِ سيبقى أقوى من صمتِهم،
ودمكِ أطهرَ من كل كلماتِهم الباردةِ.
ختاما ….
موتُ الضميرِ ليس قدَرًا، بل هو خيارٌ.
وإحياؤه يبدأ من كلِّ قلبٍ، من كلِّ موقفٍ، من كلِّ كلمةٍ تُقالُ دفاعًا عن الحقِ.
فلنُحيي ضمائرنا قبلَ أن نصبحَ أشباهَ بشرٍ، لا يؤلمنا وجعٌ، ولا يُحركنا نداءٌ.