ريم الحامدية

[email protected]

 

في الجزء الشرقي من هذا العالم، في زاوية هادئة من تايبيه، في فندق ذا هاوارد بلازا، الطابق الثالث عشر، الغرفة ١٣٢٩، أقيم أنا… بكلي، وفي مدينةٍ لا تعرف اسمي، لكنني أحمل وجهي كاملًا فيها، وأطلّ على العالم من نافذة لا تُشبه نوافذي، وأسير بين أبجدية لا تنتمي لقلبي، كغيمةٍ عبرت فوق خريطة لا تعرف المطر.

هنا، حيث تتفتح الأشجار بصمت، وتتحرك الأرواح بلا ضجيج، أصغي لصوت الساعة فلا يطابق ساعتي في عُمان، وأحاول أن أفهم كيف يمكن للغربة أن تكون بهذا الهدوء، وبهذا العمق؟

توقفت لفترة لأستعيد نفسي، فوجدتني عالقة بين يومين، وتوقيتين، ومطارين… وفي هذا الفراغ الزمني، أتعلم كيف أكون: لا كما كنت، ولا كما سأكون، بل كما أنا الآن. امرأة تحمل بلادها وأحلامها في حقيبة، تجرّ الوقت خلفها كعباءة طويلة، لا تنسجم أطرافها مع إيقاع المكان السريع. كل شيء هنا يتحرك بخفة، وأنا، بكل أثقالي، أحاول ألا أتعثر بما أحمِله من الأمس.

أستيقظ في منتصف الليل فجأة، وأحتاج لدقائق لأتذكر أين أنا. صوت المكيّف لا يُشبه الذي في غرفتي، وضوء المصباح يتسلل بلون آخر، حتى ظلّي على الجدار يبدو غريبًا. المدينة لا تتكلّم لغتي، لكن الأرصفة تحفظ خطاي، والأشجار تلوّح لي كلما مررت، كأنها تواسيني.

وفي لحظةٍ لا موعد لها، أشعر أن شيئًا بداخلي يتفتّح… كأنني أزهر رغم البُعد، رغم التوقيت، رغم كلّ شيء.

غربة صامتة ترافقني في الطرقات، تجلس جواري على الإفطار، وتنام معي على وسادة لا تحمل رائحة أحد. كم بكيت لأني أشتاق وأحن لضحكة أمي، لرائحتها، لصوتها العذب. أشتاق لوجه أعرفه بين كل الوجوه، لكنني لا أملك إلا هذا الوجه الذي أراه في المرآة، وهذه المدينة التي لا تعرفني، لكنها تمنحني مكانًا مؤقتًا على خريطتها.

الغربة أن تكتب، لأنك لا تجد من تُحدّثه. وأن تكتب أكثر، لأن الكتابة هي اليد الوحيدة التي امتدّت إليك في الوقت المناسب. في هذا البعد الصافي، أكتشف هشاشتي، وأتلمّس قلبي كما لو أنه شيء غريب تسلّل إلى صدري ذات سفر. وأتساءل:

هل كنت دومًا بهذه الرقة؟ أم أن البعد يعيدنا إلى أصلنا؟

مساء أمس، وبينما كنت أسير تحت سماء تايبيه الرمادية، انفجرت السماء بمطرٍ مفاجئ… كأنها قررت أن تبوح بكل ما أخفته.

ركضتُ كطفلةٍ لا تعرف إلى أين تهرب، ولا تريد أن تختبئ أصلًا. أهرب من المطر، وأركض نحوه، كأن في كل قطرة نداء مألوف. احتواني مقهى صغير في الزاوية، كأن القدر خبّأه لي ليضمني دون سؤال. جلست على كرسيٍ خشبي دافئ، وبين يدي فنجانٌ يعيد ترتيب نبضي.

ثم بدأ عزف ناعم ينساب من مكبر قديم… لحنٌ لا أعرفه، لكنه يعرفني، يذكرني بي، ويعيدني إليّ.

وتذكّرت، وحدي، أن الغربة ليست دومًا فقدًا…

أحيانًا، هي نقطة عميقة على الخريطة، نكتشف فيها أن الطريق إلى البيت، يمر أولًا بنافذة نطلّ منها على أنفسنا.

الغربة لا تسكن في اللغة، ولا في الأطعمة الغريبة، ولا في اختلاف الأبنية أو إشارات المرور، بل في أن تمشي كثيرًا دون أن يصادفك وجه يعرفك. أن تضحك وحدك على شيءٍ تذكّرته، فتنطفئ ضحكتك قبل أن تكتمل، لأن لا أحد حولك يمكنه أن يشاركك بها.

يوميًّا، أفتح خريطة العالم على هاتفي، وأصغّرها حتى تصبح عُمان نقطةً صغيرة على الشاشة. أتمعن طويلًا، وأسأل: كيف يمكن لوطن أن يسكن صدرك، بينما جسدك في أبعد نقطةٍ عن حضنه؟ كيف يمكن أن تحمل اسم بلادك بفخر، وفي داخلك طفلة تفتش عن رائحة بيتها بين نسماتٍ غريبة؟

ما من حاجة للوضوح… فالنص ليس إعلانًا، بل مرآة خفية. أكتب عن البُعد، عن الغيم، عن لهجة لا أفهمها، لكنني أترك فراغًا يشبهها، وصدى لا يسمعه أحد. وحين تقع عيناه على هذه السطور، سيتعرف على صوته بينها.

كل ما في هذا المكان مؤقت: إقامتي، لغتي، ابتسامتي الخجولة، وحتى ظلّي على الجدار. وحده الحنين دائم، يشتدّ كلما ظننت أنني تعودت.

يقفز من رسالة، من صورة، من صوت، ثم يجلس بقربي، صامتًا، كما تجلس البلاد حين نشتاق إليها ولا نستطيع الكلام.

وفي هذه الليلة، أترك ستائر غرفتي مفتوحة، لتوصل حنيني قبل أن أصل، لن أترك ملاحظة على طاولة الغرفة، لكنني تركت شيئًا لا يُرى. سأغادر كمن لم يأتِ، لكن النافذة ستظل تعرف اسمي والقمر التايواني سيخبر السماء عن زائرة كتبت بخفة خطواتها قصيدة لا تنتهي.

وفي النهاية، تبقى الغربة ليست فقط مكانًا أو زمنًا، بل شعورًا ينسج خيوطه داخل القلب بهدوء، يعلّمنا أن نحب أعمق، نشتاق أصدق، ونكتب… لأنّ في الكتابة حياةً أخرى تنمو.

وحيثما كانت الرحلة، تبقى الروح تبحث عن وطنها، ولعلّ الوطن هو ذاك الشعور الذي نحمله معنا، حتى لو كان مختبئًا بين السطور.

شاركها.