د. سالم بن عبدالله العامري

في كل مرة تُسفك فيها دماء الأبرياء في غزة، يتكرر المشهد ذاته وكأنه مسرح مأساوي متكرر: صمت عربي مُطبق، وتواطؤ دولي مُخزٍ، وتواطؤ إقليمي مُريب. بينما تُستباح الأرض وتُزهق الأرواح، يظل العالم العربي والإسلامي متفرجًا، عاجزًا عن تقديم أي دعم حقيقي أو حماية للشعب الفلسطيني.

عدد من الدول التي يُفترض أن تكون شريكًا في الدفاع عن حقوق الفلسطينيين تختار السياسة والحسابات الاقتصادية على حساب القيم الإنسانية والأخلاقية، فلا تدخل المساعدات الإنسانية للقطاع في ظل الرفض الإسرائيلي الآثم، بينما نجد في المقابل أبواب التطبيع تُفتح مع الاحتلال الإسرائيلي على مصراعيها، وكأن المصالح السياسية تبرر الصمت تجاه المجازر.

أما المجتمع الدولي، فيسجل إخفاقات متكررة ومتناقضة؛ فمن جهة يُدين الانتهاكات على الورق، ومن جهة أخرى يوفّر للاحتلال غطاءً دبلوماسيًا وسياسيًا، ويؤخر قرارات مجلس الأمن، ويستمر في تقديم الدعم العسكري والاقتصادي لقوى الاحتلال، فيما تُترك غزة وشعبها على مرمى نيران القصف والطائرات والدبابات. هذه السياسات لا تعكس فقط خذلانًا تاريخيًا للأمة العربية والإسلامية؛ بل تؤكد أيضًا وجود محاولات ممنهجة لتغييب الحقوق الإنسانية وطمس معاناة المستضعفين، وكأن التضامن الدولي أصبح مجرد شعارات لا تتحول إلى أفعال ملموسة.

وفي ظل هذا الواقع المرير، تظهر غزة كرمز حي للصمود؛ مدينة تحاصرها القوى الظالمة من كل جانب، لكنها لا تزال تحتفظ بإرادة حياة، وبصمود أهلها، وبصوت يصرخ في وجه العالم: “أنتم خذلتمونا، لكننا لن نستسلم”.

لم يكن خذلان غزة اليوم الأول من نوعه في تاريخ الأمة؛ فالتاريخ يحمل الكثير من الأمثلة على مواقف مشابهة، حين تُرك المستضعفون يواجهون أعداءهم بمفردهم بسبب الخيانة أو التخاذل من بعض الحكام. ففي الأندلس، على سبيل المثال، عندما كانت الجيوش الإسلامية تُحاصر من قبل الصليبيين والقوى الأوروبية، شهدت المدن الإسلامية خيانات متكررة من بعض الحكام المحليين الذين باعوا الأرض أو تفاوضوا مع الغزاة على حساب حياة الناس، مما سهّل سقوط القلاع ودمار المدن، وضاعف معاناة السكان المدنيين.

واليوم.. يتكرر هذا السيناريو في قلب فلسطين؛ حيث يُترك الفلسطينيون يواجهون الاحتلال الصهيوني بمفردهم، دون حماية حقيقية أو دعم ملموس من الدول العربية والإسلامية. بينما يعيش سكان غزة في الحصار اليومي، ويعانون من نقص الغذاء والدواء والماء والكهرباء، تُفتح أبواب التطبيع السياسي والدبلوماسي مع الاحتلال، فتتبارى بعض الأنظمة في تقديم التسهيلات والاعتراف الرسمي بالكيان المحتل، بينما تتجاهل هذه الأنظمة المعاناة اليومية لسكان غزة.

هذا التواطؤ الجديد يشبه ما حدث في الماضي: مصالح سياسية أو اقتصادية تُقدم على حساب الواجب الأخلاقي والإنساني، فتتحول الشعارات إلى مجرد كلمات على الورق، دون أن تكون لها أي ترجمة فعلية على أرض الواقع. ومع ذلك، يظل الفلسطينيون صامدين، مستلهمين من دروس التاريخ أن الحرية لا تُمنح، وأن الصمود والمقاومة هما السبيل لاستعادة الحقوق والكرامة، كما فعل أجدادهم في مواقف مماثلة عبر التاريخ.

في النهاية، تظل غزة أكثر من مجرد مدينة محاصرة؛ إنها صرخة مستمرة للمستضعفين، وشاهد حي على خذلان الأشقاء وتكالب الأعداء. ومع ذلك، يثبت صمود أهلها أن الإرادة الإنسانية أقوى من كل الحصار، وأن الحق سيظل ينتصر في النهاية على الباطل، مهما طال الظلم ومهما طالت محاولات إسكات صوت غزة الصامدة.

شاركها.