أحمد الفقيه العجيلي

غزة ليست مجرد بقعة جغرافية ضاقت بأهلها، ولا أزمة طارئة يمكن تأجيلها حتى تنتهي نشرات الأخبار.. غزة الآن أصبحت امتحانًا مفتوحًا، تُرصَد فيه المواقف، وتُسجَّل فيه الملامح.

من الذي صمت؟ من الذي تكلّم؟ ومن الذي زاد الطين بلّة وهو يدّعي الحياد؟

نتابع المشهد، ونكاد نسمع سؤالًا في دواخلنا لا يهدأ: كيف يمكن أن يرى الإنسان كل هذا، ثم يبقى على حاله؟

طفل يُنتَشل من تحت الركام، يحمل شقيقه الأصغر وكأنه يحتضن وطنًا من الرماد. أمٌّ تتلوى أمام الكاميرا: “لم يبقَ لي أحد”.

ومع هذا، بعض الشاشات العربية تعرض برامج ترفيه، وبعض الأنظمة تتحدث عن “ضبط النفس”، وبعض المنظمات “قلقة كعادتها”.

هل أصاب العمى الأبصار، أم أن العيون لم تعد تبصر إلا ما يُرضي السلطة ويُريح الضمير؟

لقد شاهدنا قممًا تُعقد، واجتماعات طارئة تُبَثّ، لكن لا أحد تجرأ على اتخاذ قرار يُربك المحتل.

كأن غزة تُذبح خارج التاريخ، كأن دماء أهلها لا تبلّل سجلات الأمم.

والأنكى من كل ذلك، أن البعض صار يبرر الصمت بتعقيدات المشهد، ويُلبس العجز عباءة الحكمة.

هنا نتذكر قول الله عز وجل: ﴿فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا ۚ أتريدون أن تهدوا من أضل الله ۖ ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلًا﴾ [النساء: 88]

أليس في هذا وصفٌ دقيقٌ لمن اختاروا أن ينحازوا للخذلان باسم الواقعية؟

من ضاعت بوصلتهم، فصاروا يرون في المقاومة تهديدًا، وفي العدوان “ردًّا مشروعًا”؟

لقد أُركسوا بما كسبت أيديهم، فانطفأ فيهم النور، وانعكست في قلوبهم المعايير.

ولا عجب، فقد نبّه النبي ﷺ منذ قرون إلى أن ترك الظالمين بلا ردع سيُغرق السفينة كلها:

“مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة… إن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا، وإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعًا”. [رواه البخاري].

هل ما زلنا على ظهر السفينة، أم أننا في قاعها ونُقنِع أنفسنا أننا في أمان؟

ومع كل هذا الظلام، يخرج صوتٌ من تحت الحصار، لا يطلب الدعم بقدر ما يزرع المعنى.

خطاب أبو عبيدة لم يكن مجرد تصريح عسكري، بل كان خطابًا في وجه الغيبوبة: “سنواصل القتال، ولو تخلّى عنا الجميع، ولن تنكسر هذه الراية، حتى لو بقي من يرفعها طفل جريح في أحد الأنقاض”.

متى كانت الكلمات التي تأتي من بين الأنقاض أصدق من خطب القصور؟

متى كان المحاصر هو من يوقظ النائمين في العواصم؟

غزة اليوم ليست بحاجة إلى بيانات التضامن، بل بحاجة إلى أن نُعيد النظر في أنفسنا:

ما معنى الكرامة؟ وما الذي تبقّى منّا حين نفقد الإحساس بالدم المسفوك ظلمًا؟

غزة ليست مجرد قضية سياسية، إنها اختبار للقلوب:

هل لا تزال حية؟ أم أنك تراها على الشاشة كأنها فيلم آخر لا يستحق التفاعل؟

في غزة، يكتب الأطفال وصيتهم على دفاتر المدرسة،

في غزة، يبكي الرجال في صمت، وتكبر الجنازات قبل أن تجف الدموع.

ومع ذلك، في مكانٍ ما… تُقام الحفلات، وتُدار الصفقات، وتُقمع الشعوب باسم “عدم التدخل”.

أيّ عزاء يمكن أن نطلبه إن فشلنا في هذا الامتحان؟

وأيّ وجه سنقابل به الله، إن كانت دماء المظلومين تُراق، ونحن لا نحرك إلا أزرار هواتفنا؟

غزة ليست مجرد جغرافيا، إنها البوصلة…

من ضلّ عنها، ضلّت عنه كل القيم.

هي التي تفرز اليوم بين من يقف في صفّ الحق، ومن يكتفي بمشاهدة الظلم وكأن شيئًا لا يعنيه.

إن واجبنا اليوم لا يقتصر على الشجب والتنديد، بل على الفعل الحقيقي:

أن نكتب ونشهد ونُذكّر.

أن نحاصر الكذبة بالرواية الصحيحة.

أن نحمل هذه القضية على أكتافنا، لأنها تختبر ما بقي من ضمير في هذا العالم.

اليوم، تقف الأمة أمام مفترق طرق:

إمّا أن تكون في صفّ الحق مهما كلفها ذلك، أو تكون شاهد زور، وإن صلّت وصامت.

في زمن تزاحمت فيه الروايات، وتعمّد الإعلام إرباك العقول، بات الواجب اليوم ألّا نكتفي بالدعاء، بل نحرس الحقيقة.

التطبيع ليس فقط اتفاقًا سياسيًا، بل غزوًا ناعمًا للأذهان… يبدأ من تغيير اللغة، وينتهي بمحو القضية.

فيا من قرأت حتى هنا…

لا تبقَ صامتًا. شارك الكلمة، انشر الرواية، ولا تستصغر أثر موقفك.

فرب كلمة أحيت ضميرًا، ورب ضمير أحيا أمة.

 

وفي الختام…

اللهم لا تجعلنا من الخاذلين، ولا من الذين رأوا وسكتوا، وسمعوا ولم يتحركوا.

اللهم اجعلنا ممن تشهد لهم غزة، لا ممن تشهد عليهم.

غزة لا تكتب التاريخ بالحبر، بل بالدم والصبر… فاختر مكانك:

إمّا أن تكون شاهدًا لها… أو شاهد زور عليها.

“والله من وراء القصد”

شاركها.