خالد بن سالم الغساني

 

باتت إعادة التاريخ لنفسه أكثر وضوحًا، لكن هذه الإعادة جاءت بأسلوب ساخر مخجل ومؤلم، حين تعلن إسرائيل بلا خوف أو ارتجاف طرف، وبُعيد انعقاد قمة الدوحة وبيانها المستنكر والشاجب والمدين، أنها ستضرب ميناء الحديدة في اليمن، وستستمر في ضرب غزة، وكأنها تُعلن عن حفل وليس عن حرب محتملة.

وما يثير السخرية والأسى في نفس الوقت، هو اليقين الكامل لديها بأن العرب، تلك الكتلة التاريخية التي حملت يومًا لواء القضية، لن يفعلوا أكثر من إنتاج بيانات الشجب والاستنكار، نصوص متشابهة تُصنع على طاولات مزخرفة يتوسطها الورد وعلى حوافها كؤوس الكريستال وزجاجات الماء الفرنسية، وصناديق من المناديل الورقية الفاخرة، وقد زُيِّنت بألوان زاهية، لا تختلف إلا في توقيت الصدور أو مكان تلك الطاولة.

تدرك إسرائيل أن أقصى ما يمكن أن يحدث هو أن تُرفع الأصوات وتتكرر الشعارات، وأن كل الكلام لن يتحول إلى فعل مهما بدا الصوت عاليًا.

هذه الغطرسة التي يبديها العدو ويستعرضها في ساحات مدننا وسماواتها، لا تستند إلى قوة عسكرية فحسب، بل إنها نتيجة قراءة دقيقة وإيمان أكيد بضعفنا المؤسف والمخزي. أنظمتنا منشغلة بتثبيت ورفاهية نفسها، وبصياغة تحالفات اقتصادية وسياسية مع أسياد العدو وداعميه وحماته، ويدرسون كيفية تطبيع العلاقة مع العدو وتمتين علاقات من سبق وطبّع وأقام علاقة معه، حتى صارت فلسطين واليمن ولبنان وليبيا والصومال مجرد ملفات خارجية لا تؤثر في القرار السياسي إلا في حدود الكلام. وفي هذا الفراغ الآمن يتحرك الخصم بثقة، متيقنًا أن لا ثمن حقيقي سيُفرض عليه دفعه، ولا أمر كبير سوف ينغص عيشه وأمنه. مع أن أكثر ما هو غريب أن هذا الضعف ليس نتيجة غياب القوة البشرية أو الموارد الطبيعية، بل نتيجة فقدان الإرادة الجماعية والمسؤولية الأخلاقية الموحدة التي تُحوِّل الإمكانات إلى فعل ملموس.

لكن المقاومة، ومهما تواضعت إمكاناتها أو وُصفت بالضعف، تظل هي الاستثناء الذي يحرج إسرائيل ويُكبدها الخسائر ويجعلها تعيش المعاناة وفقدان الأمن؛ فالصواريخ التي تصل إلى مستوطناتها، والعمليات النوعية التي تُفاجئ جيوشها، تُظهر أن الردع ممكن، وأن قوة الأمة ليست في بياناتها ولا في قممها الرسمية، بل في إرادة قادرة على تحويل الفعل إلى استراتيجية، وهنا يتكشف التناقض المرير، فبينما ينشغل الرسميون بصياغة بيانات، تُثبت المقاومة أن الإرادة وحدها تصنع المعادلة وترفع الهامة، وتجعل من كل تهديد إسرائيلي تعبيرًا عن خوف كبير ومقيم، وليس عن شجاعة حقيقية.

المشهد مؤلم، لكنه يحمل درسًا صريحًا يختزل كل الدروس والعبر، ويقول إن غطرسة إسرائيل ليست سوى مرآة لما نحن عليه اليوم من ضعف وفرقة وتمزق. حين نصمت على الظلم ونكتفي بالشجب، يتحول استهتار العدو بنا إلى قاعدة، والغطرسة تصبح ممارسة يومية.

المقاومة رغم كل الضغوط، تبقى الأمل الوحيد الذي يُذكِّر أن ردع الأعداء ليس حلمًا بعيدًا، وأن الكرامة لا تُقاس بعدد الدبابات، بل بصدق الرهان على المبادئ. وربما يكفي أن نتعلم منها أن الغطرسة الإسرائيلية ليست قوة، بل انعكاس مباشر لضعفنا نحن، ولتذكيرنا أن العمل الحقيقي يبدأ حين تتوقف الكلمات عن الاكتفاء بنفسها وتتحول إلى أفعال تُسكت كل غطرسة الأعداء وجبروتهم.

شاركها.