هند الحمدانية
يرتفع الجبل الأخضر كصلاة معلقة بين الأرض والسماء، لا يُشبه الجبال، فهو ليس مرتفعًا يُقاسُ بالأمتار؛ بل بعدد الأُمنيات التي صعدت إليه، وعدد الأُمهات اللائي مَسحن وجوه أطفالهن بقطرات ندى صباحاته، وكأنَّه خُلق ليكون هبةً في زمنٍ قلَّت فيه الهِبات؛ فهو مُرتقى للروح ومقام للسكينة، ومأوى للقلوب التي أنهكها ضجيج المدن، وملاذًا أخيرًا لمن بلغ بهم العُمر محطة التقاعد، فبحثوا عن مُتَّسعٍ من الصفاء يصنعون فيه ختامًا أجملَ للحياة.
يُغني الجبل الأخضر، فتتوزع فيه البساتين كقصائد وطنية، ويقف الرُمَّان مزهوًا ملكًا، تتدلى ثماره كقلائد حمراء على جيد الطبيعة، فيصْطَف المشمش والبرقوق واللوز والعنب والزيتون، كأنَّ كل الفصول اجتمعت لتكتب ميثاق حُبٍ أبديٍ بين التُربة ويد الإنسان.. تتجول بين المُدرَّجات فتشعرُ أنك لا تمشي فوق حجارة؛ بل فوق ذاكرةٍ من الصبر والعمل والحنين، تلك المُدرَّجات التي صعدها الأجداد بأقدامهم الحافية، وسقوها بعَرق قلوبهم قبل ماء المطر، لا تزال شاهدةً على الإنسان حين يزرع بصدق، تُزهر أرضه أكثر مما يحلُم.
بات الجبل الأخضر حُلمًا متأخرًا للكثير من الناس، ليس باعتباره وجهة سياحية فقط؛ بل بوصفه الوطن الثاني بعد أن فاضت المدن؛ فهناك من ينتظر تقاعده ليشتري بيتًا صغيرًا في ربوع الجبل، يزرع فيه شجرة رُمَّان، ويستقبل فيه صباحاته برائحة الزعتر وهدوء الطقس وأصوات العصافير، وكم من عُماني قال في سره: “سأقضي ختام حياتي في الجبل الأخضر؛ حيث لا ضجيج إلّا همس الريح، ولا صراخ إلّا ضحكة طفل يلعب تحت شجرة زيتون”. الجبل الأخضر ليس فقط طبيعة، إنه نقطة توازن أخيرة بين الحياة الصاخبة والحياة الصافية، وما أكثر الذين يحتاجون هذا التوازن في أيامهم الأخيرة، حين يضيق العمر وتتسع الحاجة إلى السكينة.
لكنَّ الجبل رغم خضرته وجماله يشعر بالأسى ويتوجَّع، فكم من أسرة خرجت لزيارته ولم تعُد، وكم من زهرة قُطفت على حواف الطريق قبل أن تبلغ موسمها؛ لأن الطريق المؤدية إلى الجبل ليست فقط منعطفات إسفلتية؛ بل هي ذاكرة موجعة لأرواح فاضت قبل أن ترى الصعود الأخير.
رأينا صورًا لأطفال ماتوا في حضن أمهاتهم، وآباءً لم يستطيعوا إنقاذ من يحبونهم لأن الطريق لم تُسعفهم، وسمعنا قصصًا عن أعراس تحوَّلت إلى مآتِم، وعن ضحكات صارت صدى حزينًا على قمة مهجورة. أليس من الحق أن نطالب المسؤولين بأن تكون السلامة على قدر الجمال؟ أليس من الواجب أن نحفظ الطريق كما نحفظ مواسم الورود؟
هي مقترحات إنسانية قبل أن تكون إدارية:
نقترح توسيع الشوارع المؤدية للجبل الأخضر، فنحن لا نتحدث عن مشروع بنية أساسية؛ بل عن حماية الأحلام التي تسير على الأسفلت.
نقترح بناء طرق مزدوجة آمنة مع حواجز حماية قوية في المنعطفات.
توفير إنارة ذكية في المسارات الحرجة خاصةً لزوار الليل.
إنشاء نقاط طوارئ مُزوَّدة بالإسعافات الأولية والدعم التقني.
فتح الباب أمام مشاريع سكنية صغيرة، تُراعي البيئة، وتُتيح للمتقاعدين والمحبين للحياة البسيطة فرصة الاستقرار، فلا أجمل من أن نُحوِّل الجبل من رحلة مؤقتة إلى إقامة دائمة، ومن مُتعة عابرة إلى نمط حياة.
فَرحُ الجبل.. الفرحُ هناك يُشبه نسيمًا يلامس كتفك بخفةٍ، ثم يمضي، يُشبه تفاحةً نضجت على مَهلٍ، وضحكة طفل يقطفها دون أن يعرف الفصول.. هو فرح دائم دون مناسبة ولا دعوة ولا إعلان؛ لأنك هناك سوف تكتشف أن السعادة لا تحتاج إلى كثير من الناس؛ بل إلى قليل من السلام، لا تحتاج إلى مركز تجاري؛ بل إلى شُرفة تُطل على وادٍ تملؤه أشجار البوت، هناك يُصبح شرب كوب شايٍ بين شجرتين حفلةً صوفيةً، ويُصبح إعداد وجبة بسيطة لعائلة صغيرة طقسًا مُقدَّسًا.
في الجبل الأخضر تُعيد اكتشاف الفرح كما أراده الخالق… بسيطًا ونقيًا، لا يحتاج لبهرجة المدن وصخب الحياة، فقط قلب حاضر وعين ترى، وروح لا تزال قادرة على الدهشة.
على قمَّة الجبل الأخضر لا تراك الطبيعة زائرًا؛ بل سليلًا من دمها العُماني الأصيل، تُنصت فلا تسمع إلّا خفقة وردة نَمَتْ بين حَجَريْن، أو وشوشة زيتونة تُهدهِد أغصانها لريحٍ وُلِدَت في الوادي، وهناك في تلك اللحظة التي تنفصلُ فيها عن العالم، يخطُر لك أن هذا الجبل لا يقفُ وحده، كأنَّ له شقيقًا بعيدًا، يُشبهُهُ وإنْ اختلفت النبرة، تتلفتُ، فلا تجد فلسطين! لكنك تشعرُ بها، وتتيقن أن غزَّة ليست بعيدة، ليست قطاعًا في خارطة؛ بل في ذاكرة الشجر، كأنَّ زيتون هذا الجبل تَذوَّق ملح البحر الذي يُطوِّق غزة، وكأنَّ مشمش المدرجات نَبَتَ من ذات البذرة التي غُرست في كروم نابلس، وكأنَّ المطر هنا يُكمِل ما انقطعَ هناك، وهذا الندى الذي يُبلِّل أوراق التين، هو ذات الندى الذي سالَ ذات فجرٍ على خدود بيت لحم.
تكتشفُ أن في الجبل الأخضر صوتًا فلسطينيًا خافتًا، كأنَّ الأرض حين انقسمت، تركتْ هنا ظِلًا وهناك رُوحًا، في لحظة… تشعرُ أن رائحة الزعتر هُنا، تُكملُ أنين الزعتر في جنين، وأنَّ الطفل الذي يركض بين البساتين العُمانية، يُعيد إلى الدنيا ما سُرِقَ من أعمار الأطفال في مخيم الشاطئ.. أجل، هناك في قمة الجبل؛ حيث يصفو الهواء وتكُف الكلمات عن الغرور، تفهم أن الشبه بين الجبل الأخضر وفلسطين ليس في الشجر.. بل في الكبرياء.
في الجبل الأخضر تعودُ الحياة إلى أبسط معانيها، ويعود الإنسان إلى سَجِيَّته، وتعود كل الأشياء إلى حقيقتها.. الصباح ضياءٌ، والماء ماءٌ، والقلوب نقاءٌ والمساء بهاءٌ.. هنا لا تحتاج أكثر من شجرة ونافذة وقلب مُستعد للسكينة، فإنْ ضاقت بك المُدُن، فاذهب إلى الجبل، لا لتنسى؛ بل لتتذكر من أنت!