قصي الخباز

رواية “الملكان الساحران والحروف المقدسة” للكاتب الصديق محمد رضا اللواتي، ليست مجرد قصة سردية تقليدية؛ بل هي رحلة عميقة في تاريخ أمة اليهود تبدأ من زمن النبي صموئيل عليه السلام، مرورًا بعهد طالوت وداوود وسليمان، عليهم جميعًا سلام الله. لقد استمدت الرواية مادتها من معين القرآن الكريم والروايات الشريفة وكتب تاريخ الأمم، ما منحها ثراءً معرفيًا وروحيًا. وقد تميزت بسلاسة الألفاظ، وسهولة التركيب، ووضوح اللغة، محافظة على الشكل العام للكتابة الأدبية.



 

الرواية لا تخلو من فائدة معرفية جليلة تُستخلص أثناء تصفحها، كالتعرف على الشخصيات التاريخية، وتاريخ الأمم السابقة، ونسب الأفراد فيها. وفي هذا السياق، يلفت الكاتب انتباه القارئ إلى حقائق نسبية مثل قوله:

(لكن يا صموئيل، طالوت، ابنُ بنيامين، الفقير المغمور، كيف يكون ملكاً على اليهود؟ إن النبوةَ والمُلك كانتا تشعان علينا من بيت يهوذا أو بيت لاوي والد عمران) صفحة 43.

وهنا يتبين عمق معرفة الكاتب بكون طالوت ابن بنيامين ولاوي والد عمران، وكلاهما من أبناء يعقوب عليه السلام.

الإسقاطات والبشائر النبوية

أظهر الكاتب براعة عالية في توظيف الإسقاطات للأحداث المتعلقة بأمة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، مجسدًا إياها على شكل بشائر جاءت في سياق السرد على لسان أبطال القصة. ومن الشواهد القوية على ذلك ما ورد في النص:

(قام الصبي ومسح دموعه ثم توجه إلى التوراة فأخذها، وبدأ ينظر إلى ما فيها: ذكرُ الرب، وتمجيدُه وتعظيمه، مواعظٌ وإرشاداتٌ، العديد من المحرماتِ والمكروهاتِ والواجبات والمستحبات، أخبارُ الأحايين الأخيرة من الزمان، ذكرُ وصيِّ “سيد ربوات المقدسين” الملقب “بسلطان الولاية” وخلفاؤه، والرجل الذي يأتي في النفس الأخير من الدهر، يحملُ ترياقًا لمستضعَفي العالم فيشربونه وتستقوي نفوسُهم فيحكمون العالمَ معه، ويفتحون أبوابَ الأرض لتمرّ من خلالها كلُّ الشرور مجتمعةً على هيئةِ ركامٍ فوق بعضها البعض) صفحة 56.

وهنا، أترك للقارئ الحكم على مدى اقتباس النص حرفيًا من التوراة أو كونه بالمعنى، معتمدًا على أمانة المؤلف وصدقه. كما أجد إسقاطًا كنائيًا دقيقًا في نص آخر: (ما إن يرقد جثمان أبيها القدسي على مغتسل الموت) صفحة 76.

وبينما كانت الإسقاطات ضمنية وكنائية في الفقرات السابقة، نجدها أكثر وضوحًا وصراحة في مواضع أخرى، كما في الحوار التالي:

(وماذا في الزبور غير ذلك يا أمي؟ مناقب سلطان الولاية اخا سيد ربوات المقدسين أهو نفسه المسمى في التوراة أليا؟ بلى يا برو …هو وزوجته السيدة المتسربلة بالشمس والقمر أحب الخلق إلى سيد ربوات المقدسين..) صفحة 117.

هذه نماذج ذكية وواسعة يمكن للقارئ النبيه أن يتلمسها بنفسه ويكتشف أبعادها.

لم يغفل المؤلف عن التعرض للواقع المعاصر والأحداث الجارية، تاركًا للقارئ الذكي مهمة اقتناص المعنى. وكأنه يمارس نوعًا من الهرمنطيقا الفلسفية التي تجعل النص محورًا للتأويل. يقول الكاتب في إحدى الفقرات بوصف مؤلم:

(إنها أعَينُ أطفالِ اليهود الذين وُلدوا في زمنِ التَّعاسة، ليجدوا أمهاتهم خَدَمًا في منازلِ الأعداءِ، أمّا آباؤهم فلم يبقَ لهم عنهم إلاّ ذكرياتٌ، بعد أن تَجوَّلت آلةُ الحربِ فوق أجسادهم فأحالتْها إلى أشلاء، ومن بقي منهم فقد ابتلعتْه غياهبُ السجون وقُعورُ السراديب، أو حولَهم طَمعُ العدوّ وجشعُه إلى عُمّالِ بناءٍ لمنازلهم، أو فلاحين في مزارعِهم، وبأجرٍ يَصلُح لشراءِ فَتاتِ العصافير وأعوادِ الغربان) صفحة 59.

هذا النص يمثل استذكارًا مؤثرًا لفترة الأمن التي كانت سائدة في الوطن العربي قبل الاحتلال، وهو إسقاط معاصر حي على خذلان الأمة للقضية الفلسطينية.

في سياق آخر، يعود الكاتب لربط أحداث الرواية بذكاء لافت، فحادثة حرق يد الفتاة المذكورة في المقطع الخامس من الفصل الأول تحت عنوان “الحزن الملتهب”، يعاد ذكرها والتعامل معها في الفقرة السابعة من الفصل الأول (صفحة 73) حيث نقرأ:

(مدت الفتاة يدها نحوه فضمها الرجل بين يديه بعطف بالغ، ثم نظر إلى راحتها ليجدها وكأنها فحمةٌ سوداء، مدَّ يده إلى جيبه وأخرج منها قماشًا أخضر اللون، وتمتم بكلمات ثم مسح القماش على راحتها عدة مرات. لاحظت إيريزيرا أن ألمها يخف! أو هكذا خُيل لها!.. لابل زال .. لا ليس هذا خيالًا، فالألم قد ذهب!.. لقد اختفى).

كما أن القارئ يجد نفسه يلتقط معلومة واضحة عن الفرق بين التوراة والزبور والتداخل بينهما. فالتوراة هي:

(كتاب اليهود المقدس، الحاوي لكل الشرائع والأحكام الربانية يا برو)

بينما الزبور:

(به مئةٌ وخمسون أنشودةً وترنيماتٍ ربانية ومزامير إلهية تبدأ باسم الرب الأعظم، وتمجد قدسه تعالى، وتكثر من حمده وتسبيحه، وعلو مجده ووحدانيته ورحمته الواسعة ومغفرته، وتضج بذكر أسمائه المباركة، ثم تذكر سيد ربوات القديسين معشوق الرب الكبير.) صفحة 116.

لم يغفل الكاتب عن التعرض للأمور الغيبيّة التي جاءت عن طريق السماء، كما يتضح في النص السابق ذكره (صفحة 56) الذي يتحدث عن “أخبار الأحايين الأخيرة من الزمان” وذكر الأوصياء.

ولقد لفت انتباهي استعمال الكاتب لمصطلح “الوجود الجمعي”، مبتعدًا بذكاء عن اللغط الذي قد يثار حول استعمال مصطلح فلسفي أو صوفي أو عرفاني يتعلق بالعوالم المتعددة. وقبل الخاتمة، يحلق الكاتب بما يقتضيه فن الرواية من إضافة الخيال ليجعل القارئ ينسجم معه ويعيش أحلامه.

إنَّ ما وقفتُ عليه ودوَّنتُه وأنا أقرأُ هذه الرواية الساحرة، والتي لها من اسمها نصيب، هو غيض من فيض. وقد آثرت أن أردَّ الجميل إلى الصديق الكاتب، الذي اهتم وأرسل لي نسخة قبل وصولها للقطيف، بهذه السطور لتكون قراءة نقدية ينتفع بها القارئ ويتحفز لها عاشق الأدب.

شاركها.