عائض الأحمد
ليس أجمل من لحظاتٍ تتفاءل فيها بالقادم،
ولعلّك أيضًا تستبشر خيرًا بقدومه، وكأنك صاحب مقولة: “القادم أجمل”.
نعم، إنها الحياة… ما بين هذه وتلك،
لكن الواقع أشد قسوةً مما كنت تحلم به.
فهل يعني هذا أن نقف،
ونعلّق أوصالنا بأطراف أصابعه،
ونترقّب ساعات الفرج على أيدي الغرباء؟
هل نراهن على المقرّبين،
ثم “نلعن” ساعةً أتت بنا إليهم،
ونحمّل الزمن وزر اختياراتنا،
كأن الأحلام لم تكن من صنع أيدينا،
ولا الأوهام من غفلتنا نحن؟
نمشي بخفّةِ ظن،
نغزل من الأمل ثوبًا هشًّا،
نهديه للواقع،
فيمزّقه دون اكتراث.
نفيق على صوت الحقيقة،
وهي تهمس ببرود:
“ما كنتَ تراه، لم يكن يومًا لك…
وما تمنّيته، لا يعني أنه قادم.”
فهل نعود نحلم؟
أم نغلق أبواب القلب عن كل احتمالٍ جميل؟
لا أدري…
لكنني بتُّ أعلم يقينًا:
أن من يعيش في الأحلام…
تقتله الحقائق حين يستيقظ.
من منّا لم يبنِ قصرًا في رمال أفكاره،
فَتَاهَ، وأسقطه نسيمُ بحرٍ عابر؟
من منّا لم تُسكنه الأحلامُ العابرةُ جنّاتِ خُلد،
فهَوَى من مقعده، ينفض غبار الأرض التي استقبلته بذراعيها؟
فأفاق “أغبر أدبر”.
لا يملك من حطامها شيئًا،
حتى شرفه… قد رهنه في دارٍ خربة،
يعيبه ساكنوها،
ويُرهقهم أثر قدميه،
وينفرون من وجوده في ممرات حيّهم.
استعصت عليه الحياة، وضاقت به،
وتشابكت حلقاتها على عنقه،
حتى سمع نداءً من بعيد،
فتمسّك بصداه، وكأن غرقه مرهونٌ بقشّةٍ يحملها غيره.
هجر أحبابه، وودّع وطنه،
مدّعيًا أنه يبحث عن فرصةٍ فقدها،
وحلمٍ لم يعُد يأتيه إلا في المنام…
ولم يلمسه يومًا في اليقظة.
ظلّ يمشي،
يحمل خيبته على كتفيه،
كمن يطارد ظلّه في دربٍ لا نهاية له.
يسأل الطرقات عن وجهٍ غاب،
وعن حكايةٍ لم تكتمل،
وعن حلمٍ… صار شتاتًا في زوايا الذاكرة.
مرّت به طفلةٌ تضحك،
فارتبك قلبه…
كاد يبتسم،
لكنه تذكّر أن الضحكة لا تسكن من فقد ملامح وجهه في المرآة.
يرى الوجوه تمرّ،
كأنها صور في شريطٍ باهت،
لا أحد يبتسم،
ولا أحد يسأل: “من أنت؟”
بات غريبًا… حتى عن نفسه،
ينظر إلى ظله على الزجاج،
فلا يرى إلا شبحًا يرتدي ملامحه.
سُرقت منه الأيام،
وبقي وحيدًا في زحام الذكريات،
ينفض عن قلبه غبار الندم،
ويهمس:
“ليتني لم أحلم…”
لكن الحلم لم يكن خيارًا،
كان مهربًا…
والهارب دومًا يعود إلى سجنه الأول،
بقلبٍ مثقوب،
وصوتٍ مبحوح،
وأملٍ لا يجيد النطق من فرط الانكسار.
أغلق أبواب منزله الكائن خلف حطامه،
في شارعٍ مظلمٍ لم يعد يسكنه أحد،
هجره القوم، وتفرّد به الوهم،
يحلف أنه بلغ أرذل العمر،
ومزّق رداءه بحثًا عمّن يلتفت إليه،
ليس لشيء…
إلا ليُربّت على كتفه،
ويهدئ من روعه،
ويقول له ببساطة:
“أنت هنا، وأنا أراك.”
لها: حينما كنتِ الوطن، وهبتك كل شيء.
شيء من ذاته: الهروب منك.. يأخذني إليك دائمًا.
نقد: أرضك.. لا زرع ينبت فيها، لكنني اخترتها؛ علّ يومًا يأتي فتفيق من جدبها.