محمد بن رامس الرواس

 

شمس غزة تشرق عليها هذه الأيام بعد عامين من الحصار والتجويع والإبادة والتنكيل، فتبث نورها ودفء حرارتها في أرجاء القطاع وتبعث الأمل بعد ما كتبه الله لها من تغيير من حال إلى حال، لقد أراد لها الأعداء أن تباد وتزال وتهجر فبعثت مرة أخرى من رحم الصبر والمعاناة والصلابة والإيمان والكرامة، ها هي غزة تستعيد أنفاسها وتنفض الغبار والألم والجراح عن نفسها، فلقد اختفت روائح البارود وتوقفت أصوات الطائرات وصمتت أصوات الدبابات وبقيت روح غزة الأبية الخفاقة تلهج بشكر المولى العلى القدير.

نعم، غزة التي أرادها العدو أرضًا بلا بشر، وسماءً بلا طيور، تعود اليوم لتثبت أن إرادة المولى عز وجل، لقد تكسّرت فوقها أحلام المعتدين كما تتكسر الأمواج على صخورها العنيدة بساحلها، وغرقت كل الحسابات الباردة أمام حرارة نبضها الإنساني. فمن يستطيع أن يخالف مشيئة الرحمن، حتى الأعداء لا يستطيعون بكل قوتهم وجبروتهم أن يردوا فضل الله ورحمته قال تعالى: “ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ۖ وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ” (فاطر: 2).

لقد ظنّوا أن الركام سيكتم صوتها، وأن الأطفال الذين نجوا من تحت البيوت لن يعرفوا إلا البكاء، لكنهم خرجوا من تحت الردم حاملين دفاترهم وألوانهم، يرسمون الشمس فوق جدارٍ لم يبقَ منه إلا نصفه، كأنهم يقولون: “نحن هنا.. وما زلنا أهل القدس”.

غزة، المدينة التي علّمت العالم معنى الثبات وقوة الإيمان وصناعة الشجعان، تعود اليوم لتكتب فصلا جديدا في تاريخها العريق، فلقد فشلت كل خطط الإبادة التي استخدمها جيش الاحتلال الإسرائيلي وذلك لأنهم نسوا أن الحياة بيد الوهاب عز وجل يهبها من يشاء ويختار من الشهداء من يريد، وفي غزة لا تأتي المعونة من الخارج، بل ترسل لهم من السماء جراء صبرهم وثباتهم فالمقاومة ليست بندقية وقنبلة؛ بل روح تبث في النفوس سعيًا منها لنيل الشهادة أو النصر.

إنها الآية الكبرى التي لم يدركها العالم، أن مدينةً بهذا الحجم الصغير تحمل في صدرها طاقة إيمان تكفي دولا وبلدانا؛ فاليوم، غزة لا تنتظر التعمير في البنيان؛ بل ستُعيد إعمار نفسها من داخلها، تزرع أشجارها وستُخرج من بين ركام الحرب ترتل آيات النصر ومن بين الأطلال تحتفل بعُرس شباب انتظروا طويلًا ليفرحوا.

ها هي غزة اليوم، تُعيد تعريف “قوة الإيمان” كما لم يعرفها أحد، حياةٌ لا تَخلو من الدموع والألم، لكنها لا تَخلو من الأمل فها هم الأسرى الذين لم يكونوا يحلمون بالفرج يمشون في أحيائها.

مدينةٌ تحيا رغم أن الدبابات طوقتها وأسراب الطيران العسكري حلقت فوقها لكنها “تحلق تحت عرش الرحمن” كما قل الشهيد عمر المختار لا فوق العرش.

غزة لا تنتظر عدالة الأرض، لأنها تعرف أن عدالة السماء قد كتبت لها الحياة، كلما حاول الطغاة دفنها.

إنها تُذكّرنا اليوم أن النصر ليس كلمةً تُقال في نشرات الأخبار، بل نَفَسٌ طويل من الصمود، وصبرٌ من فولاذ نادر وإيمانٌ راسخ بأن الله عزوجل لا يخذل المؤمنين ليكون العالم شهيدا على معنى قوله تعالى: “إن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ ۖ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ ۗ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ” (آل عمران: 160).

غزة لا تموت بإذن الله تعالى؛ لأنها ليست مدينة وبنيانا وأرصفة وشوارع وساحلا وبحرا، إنها روح، عنوانها الإيمان الراسخ بأقدار المولى عز وجل، لذلك سقطت مرةٍ أخرى أسطورة قوة الكيان الإسرائيلي على أعتابها، وأثبتت غزة مرة تلو المرة أن الشعوب التي تعشق النصر والكرامة والعزة لا تُهزم بإذن الله تعالى.

شاركها.