معاوية الرواحي

مصيرٌ مفزع أن يخسر الإنسان كلَّ شيء! أليس كذلك؟ ألا نخافُ، نحن البشر، من هذا الاحتمال المروِّع الذي يصيبُ الآخرين.

ترنُّ أجراسُ الخوف في خواطرنا عندما نعرفُ عن سقوطِ إنسانٍ إلى قاعِ حياتِه؛ الذي خسر مشروعه التجاري وسُجن، والتي طُلِّقت وبدأت من الصفر، الذي طلَّقَ ووجد نفسه بلا عائلةٍ اعتاد عليها، الذي دخل إدمان المخدرات لينسف مستقبله نسفًا، وربما أضاف على ذلك دخول السجن. الذي تورط في شيكٍ فوق طاقته ودخل في مطالباتٍ ماليةٍ حولت حياتَه السابقة إلى جحيم اجتماعي، الذي تمرَّد على المجتمع، أو الدين، أو الدولة، أو الأعراف، أو العادات، أو التقاليد وخسر التحدي، الذي أصيب بمرض نفسي واكتنفه الجنون لبعض الوقت.

الأمثلة لا نهاية لها، الذي خسر طفلا، أو أُمَّا، أو أَبًا تعلّق به كثيرًا، الطريق للقاع ليس بعيدًا كما يتوقع الذين لم يعيشوا هذه التجربة، الطريق للقاع يتربص بنا أحيانا مع أبسط خطأ، مع غضبٍ في الشارع، وضربة تسبب عاهةً دائمة. الحياة البشرية مليئة بالأخطار والأقدار، هذه حقيقة حتمية لا جدال فيها ولا حولها.

بين قاعٍ وقاعٍ آخر تتجلى حقيقة المأساة. وكلُّ إنسان وحظُّه في سقطته. ثمَّة سقوطٌ أخير لا نهوض بعده، هذه سنّة الحياة. إرادةُ القيام من الرماد لها ما لها من القصص حولنا، حتى ضمن السقوط الأخير لسجين ينتظر حكمَ الإعدام، قد يودّع العالمَ برسالةٍ مؤثرة مليئة الندم، أو بكتابٍ يرسل فيه تجليات الخير الذي لا يخلو منه قلب بشر مهما كان قاسيا. والذي رحمه الله برحمته، يكتبُ له النهوض من الرماد، والصعود من القاع، ليس إلى القمَّة بالضرورة كما يحبُّ الناس سينمائيا تداول هذه الحكايات، الصعود إلى حياة طبيعيةٍ، وتجاوزٍ، وعودة إلى قطار الحياة.

هذه الحكايات هي الأقل جذبًا، وسينمائيةً من قصص البطولات بين القاع والشراع. تمثّل حكايات النهوض دافعًا مُختلفًا للناس الذين لا يعيشون بناءً على معادلات الخوف، وإثارة النفس بالذعر. التاجر الخاسرُ الذي فتح محلًا تجاريًا ونجح نجاحًا متوسطًا، استعاد منزله الذي كاد أن يبيعه البنك، لا شيء مُثيرًا في هذه القصة، إنها عادية للغاية، لا تُبهر جموع الخائفين على مكتسبات الحياة، ولا تُشجِّع الذين يعيشون بدون مجازفةٍ على خوض ميدان التجربة.

لكي تكون قصة النهوض من الرماد سينمائية يجب أن تكون كبيرةً، وذات نجاح هائل. وضع الناس هذه الشروط! ومن الذي جعلها كذلك؟ لهذه حكاية أخرى.

ثمَّة نهوض عادي للغاية من الرماد. يدور ضمن القصص الصغيرة في الحياة. نهوضٌ منطقي، له خطَّة، وسقطة معقولة قابلة للعودة. وهُنا يتخلَّق الإنسانُ المختلف صاحب التجربة، الذي خبرَ من الحياةِ ما يكفيه لكي يكتسب قوَّة داخليةً حقيقة. لهذا من الصعب فَهم الذين تجاوزوا أزمات شاقة في هذه الحياة. ليس من السهل للآخر الذي لم يعشْ التجربة فَهم أن يُكمل الإنسان حياته ببقاياه، وأن يجعل من تلك البقايا حياةً مكتملة الأركان. ما يُفضِّله الناس من ركونٍ إلى الخيارات الآمنة ليس ما يحدث للجميع، وغربة الناهضين من الرماد كبيرة، لا تخلو من التحديات، والمغالبة المستمرة، والصراع مع النفس، وأحيانًا، الصراع مع الآخر، وربما السُلطة، وغير ذلك من التجليات المختلفة لانكسار مسارات الإنسان في طريقه إلى تحقيق ذاته.

والإنسان بخير، العالم مُجمِع على تجاهله، ما دام ليس قويًا، ومؤثرًا، وناجحًا بما فيه الكفاية لكي يصنع منافسين، أو كائدين، أو حاسدين، لا أحد حقًا يعبأ بأحد. كل إنسان يعيش أحلامه بشكلٍ منفصل تقريبًا عن أحلام الآخرين. ولكن فليجرِّب أن يسقطَ في قاعٍ ويخسر كل شيء. هُناك يرتفع عدد الذين يعرفونه، ويلوكون سقطته، بحزنٍ، أو بشماتةٍ، أو ربما بحسرةٍ. ليس التعاطف هو الدافع الرئيسي لتعاملنا كبشرٍ مع آلام الآخرين، لا نخلو من طبائعنا الخفية التي تجعلنا نحب حياتنا عندما نرى ما حدث للآخرين عندما فقدوا ما يُشبه الذي لدينا من ممتلكات، ومكتسبات، ومكانة، وقيمة، وحضور، وتأثير. ثمَّة شيء غريب في النفس البشرية يجعلنا أكثر تمسكًا بما لدينا عندما نراه يُخسر في حياة الغرباء، ولذلك تتجلى ظاهرة (يحدث للآخرين) لدى هؤلاء الغافلين عن العواقب. الآخرون فقط يُصابون بصاعقة من السماء، أو تسقط شجرة على سيارتهم، أو تحترق بيوتهم، أو تُسرق محافظهم، أو يهجم عليهم لصٌّ غادرٌ في الطريق.

أن تقوم من سقطةٍ شديدة، أمامك الكثير من العمل والتحديات. ومِن أهمِّ ما عليك فعله هو أن تؤمن بعاملِ الوقت، والثبات، والاستمرارية. وبعد أن تقوم، لن يحكي الناسُ حكايتَك بسهولة. وربما لن يحبَّ البعض أن تتحول من عبرة إلى فكرة. وهذا أيضًا من التحديات لمغادري القاع، والراحلين عن مهرجان الشماتةِ الذي يعيشه من انكسروا في هذه الحياة. مقاومة التحوُّل من عِبرةٍ إلى فكرة، رحلةٌ يخوضها الإنسان الذي عرف قوَّة التجاوز. هل غفر للحياة ما فعلته به؟ أو غفر لنفسه ما فعله بنفسه؟ أو غفر لمن ظلمَه؟ أو أخذ حقَّه؟ أيًّا ما كانت الحكاية التي جاء منها، ثمَّة سحرٌ حقيقي لقوَّة التجاوز، ولإرادة النهوض، وترميم الحياة بالبقايا التي بقيت في النفس، أو الجسد. ليست كل السقطات ذات عوامل اجتماعية، بعضها جسدية لا أكثر، إصابة السقوط من جبل، أو التهور في قيادة سيارة، ومع ذلك، لهذا النهوض عوامله المساعدة، ولهذا التجاوز أسراره العميقة التي من الصعب شرحها. يعرف الناهضون بعضهم البعض جيدًا، ولديهم اللغة التي تجعلهم يشتركون في رحلةِ الحياة. نادي “ذوي البقايا” هذا حولُنا، أقرب مما نتوقع، ولكي تراه يجب أن تكون منه، ولذلك من الصعب إنْ كنت من الناهضين من رمادهم أن يفهمك الناس، ليس هؤلاء الذين يعيشون ببقاياهم! لا يخلو هذا الأمر من غُربة، والعجيب في الأمر أن هذه الغربة حصنٌ حصينٌ يحمي الإنسان من أخطائه السابقة، ويحذره من غفلته، وقد يُنجيه ذلك من الكيد والأذى.

لكل رحلة من القاع حكايةٌ، ويجورُ الذين يرحلون من الصفر على الذين ينطلقون من القاع. من يرتفع من الأرض المستوية يروق له الانتماء زورًا إلى نادي البقايا الصامدة. ثمَّة سحرٌ في التجاوز، حتى وإن لم يكن سينمائيًا بما فيه الكفاية، هذا هو التجاوز الممكن، والأكثر نفعًا، وتأثيرًا، وقابليةً للإلهام بدلًا من وصم التجاوز بالعظمة، وصناعة وهم آخر. أن تصبح طبيعيًا بعد سقوطك، أحيانًا، هذا يكفي، يكفي تماًما!

شاركها.