تحقيق: ناصر أبوعون
يقول الشَّيخُ القاضِي الأجَلّ عِيَسى بِنْ صَالِحٍ بِنْ عَامِرٍ الطَّائِيُّ: [ذِكْرُ أَرْزَات.. وَقَدْ خَرَجْنَا إِلَى أَرْزَات صُحْبَة السُّلْطَانِ بِقَصْدِ النُّزْهَةِ؛ وَأرْزَات فِي الْأَصْلِ اسْمٌ لِوَادٍ كَثِيْرِ الْأَشْجَارِ، بِهِ عُيْوْنُ مَاءٍ تَنْبُعُ وُقُوعًا مِنْ أَصْلِ الْجَبَلِ، وُيُطْلَقُ الْآنَ عَلَى بَلْدَةٍ اخْتَطّهَا الْوَالِي سُلَيْمَانُ تَبْعُدُ عَنْ ظَفَارِ ثَلَاثَةِ فَرَاسِخَ تَقْرِيْبًا؛ أَجْرَى بِهَا الْوَالِي الْمَذْكُورُ نَهْرًا مِنْ بَاطِنِ هَذَا الْوَادِي مِنْ تِلْكَ الْعُيُونِ النَّابِعَةِ، وَكَانَ سَابِقًا أَجْرَى هَذَا النَّهْرَ سَلَاطِيْنُ ظَفَارِ الْأَقْدَمُوْنَ، لَكِنْ دَرَسَ ذَلِكَ النَّهْرُ بِتَوَالِي الْأَيَّامِ، وَهِيَ وَاقِعَة فِي مَكَانٍ أَفْيَح يَشْرَحُ الصَّدْرَ، وَيُبْهِجُ الْقَلْبَ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ حِصْنٍ صَغِيْرٍ يُحِيْطُ بِهِ حَائِطٌ وَاسِعٌ يَسْكُنُهُ الْعَبِيْدُ وَمَزَارِعُ وَاسِعَةٌ وَبُسْتَانٌ حِذَاءَ الْحِصْنِ بِهِ أَصْنَافُ الْأَشْجَارِ جَلَبَهَا الْوَالِي مِنْ عُمَانَ بِهَذَا الْبُسْتَانِ، وَبَنَى فِي أَطْرَافِ الْعِمَارَةِ بُرُوجًا وِقَايَةً لَهَا مِنْ شَرِّ الْأَعْرَابِ إِلَّا أَنَّا لَمْ نَجِدْ فِي هَذَا الْبُسْتَانِ شَجَرَةَ الْأَنْبَا فَاسْتَغْرَبْنَا ذَلِكَ! وَأُخْبِرْتُ أَنَّهُ غُرِسَتْ فِيْهِ؛ وَلَكِنْ هَبَّتْ رِيْحٌ عَاصِفٌ فَكَسَرَتْهَا جُذَاذًا].
معنى اسم أَرْزَات
يقول الشَّيخُ القاضِي عِيَسى بِنْ صَالِحٍ الطَّائِيُّ: [ذِكْرُ أَرْزَات.. وَقَدْ خَرَجْنَا إِلَى أَرْزَات صُحْبَة السُّلْطَانِ بِقَصْدِ النُّزْهَةِ؛ وَأرْزَات فِي الْأَصْلِ اِسْمٌ لِوَادٍ كَثِيْرِ الْأَشْجَارِ، بِهِ عُيْوْنُ مَاءٍ تَنْبُعُ وُقُوعًا مِنْ أَصْلِ الْجَبَلِ، وُيُطْلَقُ الْآنَ عَلَى بَلْدَةٍ اخْتَطّهَا الْوَالِي سُلَيْمَانُ تَبْعُدُ عَنْ ظَفَارِ ثَلَاثَةِ فَرَاسِخَ تَقْرِيْبًا].
(أَرْزَات) وفي معنى الاسم نسوق عدة رؤى؛ فقد يكون الاسم مشتقًا من “أَرَزَت الشجرةُ” أي “ثَبُتَتْ” نظرًا لكثرة الأشجار الصامدة المعمّرة بالوادي هناك، وربَّما هي مفرد من جمع كلمة “أَرْزَة“؛ والتي معناها شجرة الصنوبر الخضراء المُعمِّرة دائمة الخضرة، التي لا يجف ورقها، وقد يكون المعنى مشتقًّا من “رزَّت السَّماء” أي: “صوَّتت من شدة المطر”، وربَّما الاسم مشتق من الفعل “أَرَزَ” بمعنى: “لجأ”؛ حيث يلجأ إليها راغبي النزهة للسياحة والمتعة. ودلّ على هذا المعنى الحديث النبويّ: “إنَّ الإسلامَ ليَأْرِزُ إلى المَدينةِ، كما تَأرِزُ الحَيَّةُ إلى جُحْرِها(01)“، أمّا “موسوعة أرض عُمان”؛ فتقول: “رَزَات: نبع ماء طبيعي معروف، وقد قامت على هذا النبع المتدفق دائمًا منطقتان ذواتا مزارع هما: (رزات) و(المعمورة). ويظهر أن التسمية (رزات) حميرية قديمة، وتعني الظهور واندفاع الماء وانبجاسه من عِرْق الجبل(02)“.
الشيخ عيسى بصحبة السلطان
يقول الشيخ عيسى الطائيّ (خَرَجْنَا إِلَى أَرْزَات) ذهبنا وتوجّهنا. ونقرأ شاهده اللغويّ في قول سامة بن لؤي العُمانيّ القرشيّ: “إِنْ تَكُنْ فِي عُمَانَ دَارِي فَإِنِّي/ مَاجِدٌ، مَا خَرَجْتُ مِنْ غَيْرِ فَاقَهْ(03)“(صُحْبَة السُّلْطَانِ)، أي: رُفْقَة السلطان تيمور وملازمته أينما توجّه. ونقرأ شاهدها اللغويّ في قول إسحاق بن حُنين بن إسحاق العِبَاديّ: “وَأَمَّا الْمَحَبَّاتُ الْمَدَنِيَّةُ وَالْعَشِيْريَة، وَالَّتِي تَكُونُ بـ(صُحْبَةِ) السَّفِيْنَةِ، وَجَمِيْعُ مَا يُشْبِهُ هَذِهِ، فَإنَّهَا أَشْبَهُ بِالْمُعَامَلَاتِ الَّتِي تَكُونُ بِالشَّرِكَةِ(04)” (بِقَصْدِ) أردنا وابتغينا. ونقرأ شاهده اللغويّ في قول رؤبة بن العجاج: “سَدّي مِنَ المَعْرُوفِ ما تُسَدِّي/ دُونَكَ تَسْلِيمِي فَهذَا (قَصْدِي)(05)“(النُّزْهَةِ) الخروج والتباعد لارتياد الخُضرة ونحوها. ونقرأ شاهدها اللغوي في قول رجل من العرب يخاطب ابن عبّاس: “إِنِّي رَجُلٌ يُحِبُّ النُّزْهَةَ، فَهَلْ فِي الْجَنَّةِ نُزْهَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنْ شِئْتَ إِلَى حَيْثُ شِئْتَ(06)“.
الشيخ عيسى الطائي يصف أرزات
(وَأرْزَات فِي الْأَصْلِ) في أساسها وبدء وجودها ونشأتها الأولى. و(الْأَصْلِ) مفرد وجمعه: (آصُل، أُصُول)، ونقرأ شاهدها اللغوي في قول الخليل الفراهيديّ: “وَمِنْهُ مَا يُقَرُّ عَلَى أَصْلِ تَأْسِيْسِهِ(07)“(اِسْمٌ لِوَادٍ كَثِيْرِ الْأَشْجَارِ) الوادي اسم مفرد وجمعه: (أَوْدَاء، أَوْدَاية، أَوْدَاه، وِدْيان، أَوْدِيَة)، وهو كلُّ مُنْفَرَجٍ بين الآكام أو الجبال يكون مَنْفذًا للسيل. ونقرأ شاهده في قول مالك بن فهم الأزدي، يفتخر بقبيلته فَهْم:” وَسِرْنَا بَيْنَ أَحْقَافٍ وَرَمْلٍ/ وَغَلْفَاتٍ تَعَاطَاهَا بَنَانِي – وَأَوْدِيَةٍ بِهَا نَعَمٌ وَشَاءُ/ يُرِدْنَ الْمَاءَ تَنْزَحُه السَّوَانِي(08)“(بِهِ عُيْوْنُ مَاءٍ) (عُيون، أَعْيُن، أَعْيان)، وفي لغة أخرى يأتي الجمع على صورتين (عِيُون) بكسر العين المهملة وضم الياء المثناة التحتية، و(عَيَن) بفتح العين والياء، وكلها جموع من المفرد (عَيْن) بفتح العين المهملة وسكون الياء المثناة التحتية. والشاهد فيها نقرأه في قول امرئ القيس بن جُحْر الكنديّ: “تَيَمَّمْتُ (الْعَيْنَ) الَّتي عِنْدَ ضَارِجٍ/ يَفِيءُ عَلَيْهَا الظِّلُّ، عَرْمَضُهَا طَامِي(09)” (تَنْبُعُ وُقُوعًا مِنْ أَصْلِ الْجَبَلِ) (تَنْبُعُ)، أي: يجري الماء منها ويتدفق. والشاهد فيها نقرأه في حديث الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) يجيب مَن سأله عن بئر عبدالله بن غطفان “رَهْوَةٌ تَنْبُعُ مِنْ أَصْلِ جَبَل(10)” (وُقُوعًا) سقوطًا، أي: يسّاقط الماء من حواف التلال. وهو مصدر من (وقع)، ونقرأ شاهده اللغويّ في قول أبي قِلابة الهُذَلِيّ، يصف اصطفاف الجِمَال في السير باصطفاف الحمام للشرب: “مَا إِنْ رَأَيْتُ، وَصَرْفُ الدَّهْرِ ذُو عَجَبٍ/ كَالْيَومِ هِزَّةَ أَجْمَالٍ بِأَظْعَانِ – صَفًّا جَوَانِحَ بَيْنَ التَّوْأَمَاتِ/ صَفَّ (الْوُقُوْعَ) حَمَامُ الْمَشْرَبِ الْحَانِي(11)” (أَصْلِ الْجَبَلِ)، والمعنى: تنبع عيون أرزات من أسفل وقاعدة الجبل. ونقرأ شاهدها في قول السموأل بن غُريض الغساني الأزدي، يصف الجبل: “رَسَا (أَصْلُهُ) تَحْتَ الثَّرَى، وَسَمَا بِهِ/ إِلَى النَّجْمِ فَرْعٌ، لَا يُنَالُ طَوِيْلُ(12)“.
الوالي سليمان اخْتّطَّ أرزات
(وُيُطْلَقُ الْآنَ عَلَى بَلْدَةٍ) (بَلْدَة) اسم مفرد والجمع منه (بِلَاد، بُلْدان)، ومعناه: الموضع من الأرض الخالي أو العامر المسكون. ونقرأ شاهدها في بيت شعر منسوب إلى مالك بن فهم الأزديّ، يقول فيه: “أُقَلِّبُ طَرْفِي فِي الْبِلَادِ، فَلَا أَرَى/ وُجُوْهَ أَخِلَّائِي الَّذِيْنَ أُرِيْدُ(13)” (اخْطَتْهَا الْوَالِي سُلَيْمَانُ) (اخْتَطّهَا) فعلٌ متعدٍ. والمعنى: وَضَعَ فيها علامات لبنائها وإعمارها. ونقرأ شاهد (اختط) في قول أبي يوسف الأنصاريّ “(فَاخْتَطَّ) النَّاسُ الْكُوْفَةَ وَنَزَلُوْهَا(14)” (تَبْعُدُ عَنْ ظَفَارِ ثَلَاثَةِ فَرَاسِخَ تَقْرِيْبًا) أي: بمقدار 18 كيلومترًا. (فَرَاسِخَ) جمعٌ مفرده (فَرْسَخ)، وهي كلمة فارسيّة مُعرَّبة ومعناها (السكون)، وسُمي بذلك لأن صاحبه إذا مشى قَعَد واستراح من ذلك كأنه سَكَنَ. وهو وحدة قياس قديمة للأطوال والمسافات. وجاء في مُختار الصِّحاح أن مقداره: (ثلاثة أميال هاشميّة)، أو (اثنا عشر ألف ذراع)؛ أي حوالي ستة كيلومترات. ونقرأ شاهده في الحديث النبويّ: “سَأَلْتُ أَنَسَ بنَ مَالِكٍ عن قَصْرِ الصَّلَاةِ، فَقالَ: كانَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ إذَا خَرَجَ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ أَوْ ثَلَاثَةِ فَرَاسِخَ، شُعْبَةُ الشَّاكُّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ(15)“.
نهر أرزات أجراه السلاطين
يقول الشَّيخُ القاضِي عِيَسى بِنْ صَالِحٍ الطَّائِيُّ: [أَجْرَى بِهَا الْوَالِي الْمَذْكُورُ نَهْرًا مِنْ بَاطِنِ هَذَا الْوَادِي مِنْ تِلْكَ الْعُيُونِ النَّابِعَةِ، وَكَانَ سَابِقًا أَجْرَى هَذَا النَّهْرَ سَلَاطِيْنُ ظَفَارِ الْأَقْدَمُوْنَ، لَكِنْ دَرَسَ ذَلِكَ النَّهْرُ بِتَوَالِي الْأَيَّامِ].
(أَجْرَى) أي: شقّ وحفر، ودلّ على معناه قول ابن الرومي يصف روضةً: “وَسَاقَ مِنْ حَوْلِهَا جَدَاوِلَهَا/ فَشَقَّ أَنْهَارَهَا وَفَجَّرَهَا(16)” (الْوَالِي الْمَذْكُورُ)، أي: سليمان بن سويلم بن سالمين، (نَهْرًا) الماء العذب الغزير الجاري. بسكون الهاء وفي لغة أخرى بفتح الهاء(نَهَر)، وهو مفرد والجمع: (نُهُور، نُهُر، أنْهَار). ونقرأ شاهده اللغوي في قول الكاهنة عُفيراء الحِمْيَريّة، تحكي لمرثد بن عبد كلال رؤيةً رأتها في المنام “رَأَيْتُ أَعَاصِيْرَ وَزَوَابِعْ، بَعْضُهَا لِبَعْضٍ تَابِعْ، فِيْهَا لَهِيْبٌ لَامِعْ، وَلَهَا دُخَانٌ سَاطِعْ، يَقْفُوهَا (نَهْرٌ) مُتَدَافٍع(17)” (مِنْ بَاطِنِ هَذَا الْوَادِي) من جوف الوادي. ونقرأ شاهده في قول حُمَمة بن رافع الدوسيّ، يصف آلام الناس: “مَنْ إِذَا سَأَلَ خَضَعْ، وَإِذَا سُئِلَ مَنَعْ، وَإِذَا مَلَكَ كَنَعْ، ظَاهِرُهُ جَشَعْ، وَبَاطِنُهُ، طَبَعْ(18)” (مِنْ تِلْكَ الْعُيُونِ النَّابِعَةِ) المتدفقة الجارية ماؤها. والشاهد فيها قول اليعقوبي ذاكرًا أنواع المياه: “وهي أربعة أنوع أصناف: أولها: المياه الراكدة مثل البطائح التي لا تجري، والثاني: العيون النابعة..(19)“. وقد أكدت تقارير دائرة موارد المياه المعنية بمتابعة وقياس تدفقات المياه من عين ماء أرزات الصادرة ما بين عامي 2017 2019م بمحافظة ظفار أنّ كمية المياه النابعة من العين تتراوح سنويًّا ما بين 5 9 ملايين متر مكعب بنسبة تبدأ من 162 لترًا إلى 286 لترًا في الثانية. (وَكَانَ سَابِقًا) في الأعصر الماضية (أَجْرَى هَذَا النَّهْرَ) (سَلَاطِيْنُ ظَفَارِ الْأَقْدَمُوْنَ) وهم الْمُنْجَوِيُّوْنَ؛ الذين وفدوا من اليمن وحكموا (ظَفار)، وقد ذكر صاحب حاشية مخطوط (صورة الأرض) لابن حوقل “أن السلطان أحمدُ بن محمد بن منجوه، كان حاكمًا على بلاد الشحر سنة 540هـ، ودارُ مُلْكه بمِرباط، وله أيضا مدينة ظَفار وتبعد مسيرة يوم ونصف من مرباط، ثم ورث حكم ظفار من بعده ابنه محمد. ويعتقد الباحث في التاريخ اليمنيّ صالح الحامد في كتابه (تاريخ حضرموت) “باحتمال ظهور الدولة المنجويّة قبل ذلك التاريخ حاكمين لظَفار بالولاية والإنابة عن الفرس”، و”كانت ظَفار حتى نهاية القرن السادس الهجري الثاني عشر الميلادي تحت الولاية الخاصة لآل منجويّ، وكانت مدينة مرباط مقر حكمهم وعاصمة دولتهم التي امتدت إلى أطراف حضرموت الشرقية”، ويرى (س. ب. مايلز43) “أن الأسرة المنجويّة “تركت مؤثراتها العميقة على عقول ووجدان سكان المنطقة على خلاف أغلب الغزاة”. (لَكِنْ دَرَسَ ذَلِكَ النَّهْرُ) (دَرَسَ) امّحى، وذهب أثره. ونقرأ شاهده في قول مهلهل بن ربيعة التغلبي: “أَضْحَتْ مَنَازِلُ بِالسُّلَّانِ قَدْ (دَرَسَتْ)/ تَبْكِي كُلَيْبًا، وَلَمْ تَفْزَعْ أَقَاصِيْهَا(20)“(بِتَوَالِي الْأَيَّامِ) تتابعها، وترادفها. ونقرأ شاهدها اللغوي في قول جبلة بن الحارث: “بِتْنَا وَبَاتَتْ رِيَاحُ الْغَورِ تُزْجِلُهُ/ حَتَّى اِسْتَتَبَّ (تَوَالِيْهِ) بِأَنْجَادِ(21)“.
الشيخ عيسى يصف بستان أرزات
يقول الشَّيخُ القاضِي عِيَسى بِنْ صَالِحٍ الطَّائِيُّ: [وَهِيَ وَاقِعَة فِي مَكَانٍ أَفْيَح يَشْرَحُ الصَّدْرَ، وَيُبْهِجُ الْقَلْبَ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ حِصْنٍ صَغِيْرٍ يُحِيْطُ بِهِ حَائِطٌ وَاسِعٌ يَسْكُنُهُ الْعَبِيْدُ وَمَزَارِعُ وَاسِعَةٌ وَبُسْتَانٌ حِذَاءَ الْحِصْنِ بِهِ أَصْنَافُ الْأَشْجَارِ جَلَبَهَا الْوَالِي مِنْ عُمَانَ بِهَذَا الْبُسْتَانِ].
(وَاقِعَة فِي مَكَانٍ أَفْيَح) (أَفْيَح) الوادي الممتد الواسع. وهي صفة مشبّهة من (فوح/فيح). ونقرأ شهادها اللغوي في قول ابن أخت تأبط شرًّا وهو يرثيه: “(أَفْيَحُ) الْبَابِ، مُفِيْدٌ مُبِيْدٌ/ جَادَ مِنْ جَدْوَى يَدَيْهِ الْمُقِلُّ(22)” (يَشْرَحُ الصَّدْرَ) يوسّعه ويزيل غمّه. ومنه قول ورقة بن نوفل القرشي: “فَإِنْ يَكُ حَقًّا يَا خَدِيْجَةُ، فَاعْلَمِي/ حَدِيْثُكِ إِيَّاَنا، فَأَحْمَدُ مُرْسَلُ – وَجِبْرِيْلُ يَأْتِيْهِ، وَمِيْكَالُ مَعَهُمَا/ مِنَ اللهِ وَحْيٌّ، (يَشْرَحُ الصًّدْرَ)، مُنْزَلُ(23)” (وَيُبْهِجُ الْقَلْبَ) يُفْرِحَه ويَسُرّه. ومن قول علي بن أبي طالب يتحدث عن نعيم الجنة: “أَقْبَلَتْ سَحَابَةٌ تَغْشَاهُمْ، فُتُمْطِرُ عَلَيْهِمْ مِنَ النِّعْمَةِ وَالَّلذَّةِ، وَالسُّرُورِ وَ(الْبَهْجَةِ)، مَا لَا يَعْلَمْهُ إِلَّا اللهُ سُبْحَانَه(24)“. (عِبَارَةٌ عَنْ حِصْنٍ صَغِيْرٍ) (يُحِيْطُ بِهِ حَائِطٌ وَاسِعٌ) (الحَائِط) مفرد والجمع (حِيَاط، حِيْطان، حَوَائط)، وهو البستان المُحاط بجِدار. وشاهده في قول أَرْبَد بن ضَابِئ الكلابيّ، يهجو بني ربيعة بن مالك، يصفه بالجوعى: “بِسَمْنَانَ، بَوْلُ الْجُوْعِ، مُستنْقِعًا بِهِ/ قَدِ اِصْفَرَّ مِنْ طُوْلِ الْإِقَامَةِ حَائِلُهْ – بِبُرْقَانِهِ ثُلْثٌ، وَبِالخَرْتِ ثُلْثُهُ/ وَبِـ(اْلحَائِطِ) الْأَعْلَى أَقَامَتْ عَيَائِلُهْ (25)” (يَسْكُنُهُ الْعَبِيْدُ) (وَمَزَارِعُ وَاسِعَةٌ) حيث تصلح مياه العين لزراعة سائر المحاصيل والأشجار خاصةً أن نسبة الملوحة فيها منخفضة وتتراوح ما بين 773 830 ميكروسيمنس/ سنتيمتر. (وَبُسْتَانٌ حِذَاءَ الْحِصْنِ) (حِذَاءَ) اسم مفرد، والجمع أحذية. والمعنى: إزاؤه ومقابله. والشاهد فيه قول عمرو بن قِعَاس المُراديّ: “وآنِسَةٍ، حَذَوْتُ، وَلَمْ أَدِنْها/ فَأَعْجَبَنِي طَرَاوَةُ مَا حَذَوْتُ – فَلَمَّا أَنْ وَهَتْ قَرَنَتْ ولَانَتْ/ وجَاءَتْ فِي الْحِذَاءِ كَمَا اشْتَهَيْتُ(26)“(بِهِ أَصْنَافُ الْأَشْجَارِ) (جَلَبَهَا الْوَالِي مِنْ عُمَانَ). (مِنْ عُمَانَ) مصطلح قصد به الشيخ عيسى الطائي (سلطنة مسقط وعمان) الفترة الزمنية من النصف الثاني من القرن التاسع عشر والقرن العشرين، وكانت تشمل الإمارات وأجزاء من باكستان، وتشابهار وجوادر، والتي تكوّنت على أثر الجهود النضالية والتوحيدية للإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي، الذي طرد الفرس عام 1749م.
الشيخ عيسى يصف حصن أرزات
يقول الشَّيخُ القاضِي عِيَسى بِنْ صَالِحٍ الطَّائِيُّ: [وَبَنَى فِي أَطْرَافِ الْعِمَارَةِ بُرُوجًا وِقَايَةً لَهَا مِنْ شَرِّ الْأَعْرَابِ إِلَّا أَنَّا لَمْ نَجِدْ فِي هَذَا الْبُسْتَانِ شَجَرَةَ الْأَنْبَا فَاسْتَغْرَبْنَا ذَلِكَ! وَأُخْبِرْتُ أَنَّهَا غُرِسَتْ فِيْهِ؛ وَلَكِنْ هَبَّتْ رِيْحٌ عَاصِفٌ فَكَسَرَتْهَا جُذَاذًا].
(بَنَى أَطْرَافِ الْعِمَارَةِ بُرُوجًا وِقَايَةً لَهَا) (البُرُوج) عمارة تحصينية مستديرة الشكل أو نصف دائرية وهي منصات للمراقبة والحراسة وإطلاق النيران يربط بينها ممشى أعلى السور (مِنْ شَرِّ الْأَعْرَابِ) هجمات سكان الجبل الذين كانوا على عداوة متأصلة وكراهةٍ راسخة للوالي سليمان بن سويلم (إِلَّا أَنَّا) (لَمْ نَجِدْ) (شَجَرَةَ الْأَنْبَا) شجرة المانجو العمانيّة (فَاسْتَغْرَبْنَا ذَلِكَ) (وَأُخْبِرْتُ أَنَّهَا) (غُرِسَتْ فِيْهِ) (وَلَكِنْ) (هَبَّتْ رِيْحٌ عَاصِفٌ) (عَاصِفٌ) صفة مُشَبَّهة والجمع منها: (عَوَاصف، عُصُف، عُصَّف) شديدة الهبوب. ودلّ عليها قول سعد بن مالك بن ضبيعة البكريَ: “ويَا حَارُ، كَمْ مِنْ مَاجِدٍ سَوْفَ تَلْتَقِي/ عَلَيْهِ ذُيُولُ (الْعَاصِفَاتِ) الشَّوَارِكِ(27)” (فَكَسَرَتْهَا جُذَاذًا) قطّعتها الريح العاصف قِطَعًا صغيرة. والشاهد فيها نجده في قول الله عز وجل: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} [سورة الأنبياء، الآية: 58]
…….
المصادر والمراجع:
(27) ديوان بني بكر في الجاهلية، جمع وتوثيق: عبد العزيز النبويّ، دار الزهراء، القاهرة، ط1، 1989م، ص:547.