تحقيق: ناصر أبوعون

يقول الشَّيخُ القاضِي الأجَلّ عِيَسى بِنْ صَالِحٍ بِنْ عَامِرٍ الطَّائِيُّ: [وَأَخْبَرْتُ أَنَّ الْوَالِيَ سُلَيْمَانَ أَكْثَرَ مِنْ غَرْسِ السُّكَّرِ فِيهِ فَحَصَلَ مِنْ ذٰلِكَ أَرْبَاحٌ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ صَنَعَ آلَةَ الْمِعْصَرَةِ لِعَصْرِ قَصَبِ السُّكَّرِ وَقُدُورًا لِطَبْخِهِ. وَهُمْ يَغْرِسُونَ الْقَتَّ أَيْ الْبَرْسِيمَ، فَإِذَا شَبَّ وَنَمَا تَرَكُوهُ وَشَأْنَهُ فَلَا يَعْتَنُونَ بِهِ وَلَا يُخْرِجُونَ عَنْهُ الْحَشِيشَ، وَإِذَا أَرَادُوا جَزَّهُ قَطَعُوهُ مِنْ أَعْلَى أُصُولِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ إِبَانُ قَطْعِهِ وَجَزِّهِ؛ بَلْ يَرَوْنَ قَطْعَهُ قَبْلَ نُمُوِّهِ وَإِدْرَاكِهِ أَوْلَى، عَكْسَ مَا عِنْدَنَا، وَلَا يَمْضِي نِصْفُ عَامٍ إِلَّا وَيُثِيرُونَ أَرْضَهُ وَيَغْرِسُونَ آخَرَ بَدَلَهُ. وَالْهِيسُ عِنْدَهُمْ لَا يُبَالِغُ فِي حَفْرِ الْأَرْضِ، بَلْ هُي مُجَرَّدُ خُطُوطٍ رَيْثَمَا يَبِينُ أَثَرُهَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَإِذَا أَرَادُوا غَرْسَ الْمُسَيْبِلُو بَذَرُوهُ أَوَّلًا بِمَكَانٍ ثُمَّ إِذَا انْتَشَى نَقَلُوهُ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ، فَيَأْخُذُونَ ثُغْتَا فَيَغْرِسُونَهُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَهٰكَذَا يَفْعَلُونَ بِالْبَاقِي، فَيَنْتَشِي ذَا أَعْوَادٍ دُقَاقٍ، فَإِذَا سَنْبَلَ صَغِيرًا صَغُرَ حَجْمُ قَضِيمِهِ، وَهُمْ يَكْسِرُونَ قَضِيمَهُ يَزْعُمُونَ أَنَّ ذٰلِكَ أَدْعَى لِبَقَاءِ الْحَبِّ فِيهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْقَضِيمَةَ إِذَا كُسِرَتْ ذَبُلَتْ وَصُوِّحَتْ وَانْقَطَعَتْ عَنْهَا مَادَّةُ الْحَيَاةِ الَّتِي تُنَمِّيهَا وَتُنْشِيهَا. وَغَايَةُ مَا نَقُولُ إِنَّ أَهْلَ ظُفَارَ قَلِيلُو الْمَعْرِفَةِ بِعِلْمِ الْفِلَاحَةِ].

….

مِعْصَرة القصب في ظَفَار

يقول الشَّيخُ عِيَسى الطَّائِيُّ: [وَأَخْبَرْتُ أَنَّ الْوَالِيَ سُلَيْمَانَ أَكْثَرَ مِنْ غَرْسِ السُّكَّرِ فِيهِ فَحَصَلَ مِنْ ذٰلِكَ أَرْبَاحٌ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ صَنَعَ آلَةَ الْمِعْصَرَةِ لِعَصْرِ قَصَبِ السُّكَّرِ وَقُدُورًا لِطَبْخِهِ].

(وَأَخْبَرْتُ) فعلٌ متعدٍ بالهمزة مبني للمجهول من (خ. ب. ر). ومعناه: أعلمُوني بمنجزات الوالي سليمان في مجال الزراعة بإقليم ظفار زمنَ سلاطين آل سعيد. ونقرأ شاهده اللغويّ في قول هُنَيّ بن أحمرَ الكنانيّ: “ضَمْرُ (أَخْبَرَنٍي)، وَلَسْتَ بِمُخْبِرِي/ وَأَخُوْكَ نَاصِحُكَ الَّذِي لَا يَكْذِبُ(01)“(الْوَالِيَ سُلَيْمَانَ) سليمان بن سويلم بن سالمين، قائد قوات السلطان تركي، وكان من بين حاشية السلطان، وموضع ثقته، ولمنزلته تلك فقد جعله السلطان مستشارا خاصا، وقائد جيشه، ثم عيَّنه حاكمًا على ظفار، ونائبا عنه فيها، فسار إليها في 18 مقاتلا واستولى على الحصن المركزيّ لظفار، قبل أن تصل إليه الحامية الرئيسية للسلطان”(02)أَنَّ (الْوَالِيَ سُلَيْمَانَ) (أَكْثَرَ) فعلٌ مُتعدٍ بالهمزة (ك.ث.ر)، والمعنى: زاده، وجعله وفيرًا في ظفار. وشاهده اللغويّ نقرأه في قول خَود بنت مطرود البَجَليّة، تخاطب أباها حين سألها في أمر خطبتها: “أَنْكِحْنِي عَلَى قَدْرِي، وَلَا تُشْطِطْ فِي مَهْرِي، فَإِنْ تُخْطِئْنِي أَحْلَامُهُمْ لَا تُخْطِئْنِي أَجْسَامُهُمْ، لَعَلِّي أُصِيْبُ وَلَدًا، وَ(أُكْثِرُ) عَدَدًا(03) مِنْ (غَرْسِ السُّكَّرِ فِيهِ) زراعة قصب السُّكّر في وادي أرزات، (غَرْسِ) مفرد والجمع منه: (غُرُوس، أَغْرَاس، غِرَاس) والمقصود غَرْس عُقَل السّاق، التي تحتوي على البراعم في تُربة وادي أرزات (صَنَعَ آلَةَ الْمِعْصَرَةِ) (صَنَعَ) بمعنى أنشأ، أو جَلَبَ، أو عمِلَ، أو أشرفَ. والشاهد اللغويّ عليه نقرأه في قول كليب بن ربيعة التغلبيّ: “سَأَمْضِي لَهُ قُدُمًا، وَلَوْ شَابَ فِي الَّذِي/ أَهُمُّ بِهِ، فِيْمَا (صَنَعْتُ)، المَقَادِمُ(04)“(آلَةَ الْمِعْصَرَةِ) اسم آلة من (ع. ص. ر)، والجمع: (مَعَاصِر) آلة عصر قصب السكر، وما على شاكلته من النباتات. والشاهد اللغويّ عليها، نقرأه في قول الخليل بن أحمد الفراهيدي: “وَالْفِيْرَةُ حُلْبَةٌ تُطْبَخُ، حَتَّى إِذَا فَارَتْ فَوْرَاتِهَا أُلْقِيَتْ فِي (مِعْصَرَةٍ) فَصُفِّيْتْ(05)لِـ(عَصْرِ قَصَبِ السُّكَّرِ) (عَصْرِ) مصدرٌ، ومعناه: ضغط القصب ضغطًا شديدًا لاستخراج عصارته. ونقرأ شاهده اللغويّ في مسند الدراميّ عن ابن عباس: “لَيْسَ مِنْ مَوْلُوْدٍ إِلَّا اسْتُهِلَّ، وَاسْتِهْلَالُهُ بِـ(عَصْر) الشَّيطانِ بَطْنَه فَيَصِيْحُ، إِلَّا عِيْسَى بْنُ مَريَم(06)” (وَقُدُورًا لِطَبْخِهِ) (قُدُور أقدار) جموعٌ، والمفرد (قِدْر) وهو إناء الطبخ. ونقرأ شاهده اللغويّ في قول أبي قِلابة الهُذَليّ: “وَمِنَّا عُصْبَةٌ أُخْرَى حُمَاةٌ/ كَغَلْي (الْقِدْرِ) حُشَّتْ بِالثِّقَابِ(07)” فإذا ما تمّت عملية عَصْر قصب السُّكر، تبدأ عملية تصفية العصير في قُدُور مُخصصة، ثمُ توضَع القُدُور على أفرانٍ ليغلي العصير تحت درجة حرارة عالية، حتى يتبخّر الماء تمامًا، وتتركّز مادة السكّر، وتتحوّل بعد التبخير إلى بلّورات لامعة، ثُمَّ تُفصَل البلّورات وتُجفف، ثم تنتقل إلى المرحلة الأخيرة من التصنيع؛ وهي التعبئة لتكون جاهزة للاستهلاك.

زِراعة البَرْسيم في ظَفار

يقول الشَّيخُ عِيَسى الطَّائِيُّ: [وَهُمْ يَغْرِسُونَ الْقَتَّ أَيْ الْبِرْسِيمَ، فَإِذَا شَبَّ وَنَمَا تَرَكُوهُ وَشَأْنَهُ فَلَا يَعْتَنُونَ بِهِ وَلَا يُخْرِجُونَ عَنْهُ الْحَشِيشَ، وَإِذَا أَرَادُوا جَزَّهُ قَطَعُوهُ مِنْ أَعْلَى أُصُولِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ إِبَانُ قَطْعِهِ وَجَزِّهِ، بَلْ يَرَوْنَ قَطْعَهُ قَبْلَ نُمُوِّهِ وَإِدْرَاكِهِ أَوْلَى، عَكْسَ مَا عِنْدَنَا، وَلَا يَمْضِي نِصْفُ عَامٍ إِلَّا وَيُثِيرُونَ أَرْضَهُ وَيَغْرِسُونَ آخَرَ بَدَلَهُ].

(الْقَتَّ أَيْ الْبِرْسِيمَ) (الْقَتَّ) اسم جنس. ويُسمّى نبات الفِصْفَصَة، وأوراقه ثلاثية خضراء، ويُتَّخَذ عَلَفًا للدّواب، وثبتَ بالتجارب العلميّة أنه يحتوي على مادة مهدئة للأعصاب. ونقرأ شاهده اللغويّ في قول بَلْعاء بن قيس اليَعْمرِيّ الكِنَانيّ: “رَأْلَةٌ مُنْتَتِفٌ بُلْعُومُهَا/ تَأْكُلُ (الْقَتَّ) وَخَمَّان الشَّجَر(08)(الْبِرْسِيمَ) كلمة قِبْطِيّة قديمة Bercim، وتعني (النَّفل الإسكندرانيّ)، وهو نبات عُشْبيّ حوليّ من فصيلة القَطَانيّات يُسْتعمل علفًا للدواب(09). وله تعريفٌ من طريق آخر؛ فيُوصف بأنّه “نبات أخضر ذو زهر أبيض، يُتَّخذُ علفًا للحيوانات رَطْبًا وجافًا. وقد ذكره سحنون عندما كان يستفتي في بيع بعض الأعلاف “قلتُ: فالقُرط الأخضر واليابس بـ(البِرْسِيم) يَدًا بِيَدٍ(10)“(شَبَّ) فعلٌ متعدٍ بمعنى (فَزَّ) من الأرض وظهرت نبتته مثل فتيل النار. ونقرأ شاهده اللغويّ في قول الحارث بن كعب المّذْحَجيّ: “وَ(شَبُّوا) عَلَى قُرْعِ الْيَفَاعَةِ نَارَكُمْ/ لِيَأتَمَّهَا الضَّيْفُ الَّذِي بَاتَ طَاوِيَا(11) وَ(نَمَا) فعل لازم. وفي لغة أخرى (نمى) بألفٍ مقصورة. والمعنى (كَبِرَ وطَالَ). ونقرأ شاهده اللغويّ في قول تأبَّط شرًّا الفهميّ: “غُلَامٌ (نَمَى) فَوْقَ الْخُمَاسِيِّ قَدْرُهُ/ وَدُوْنَ الَّذِي قَدْ تَرْتَجِيْهِ النَّوَاكِحُ(12)“(تَرَكُوهُ وَشَأْنَهُ)، أي: لم يتدخلوا في أمره، ولم يهتمّوا به، ولم يتعهّدوه بالرعاية (فَلَا يَعْتَنُونَ بِهِ)، أي: لا يهتمون بإكثاره أو تجويد زراعته، (وَلَا يُخْرِجُونَ عَنْهُ الْحَشِيشَ)، أي: لا يُزيلون الحشائش الضارة منه غير المرغوب فيها التي تنافس نبات البِرسيم على الضوء والمياه والغذاء. وهذه العملية تُسمّى في عِلْم الفلاحة بـ(التعشيب اليدويّ)، وَ(إِذَا أَرَادُوا جَزَّهُ) جَزّه: قَصُّه وقطعه من أعلى مع ترك جزء من الساق فوق التربة. ونقرأ شاهده اللغويّ في قول طرفة بن العبد البكريّ يُشبِّه أعداءه بالنخل؛ إذا أينع قُطِعَ ثمرُه: “أَنْتُمُ نُخَيْلٌ نُطِيْفُ بِهِ/ فَإذَا مَا (جَزَّ) نَصْطَرِمُه(13)” (قَطَعُوهُ مِنْ أَعْلَى أُصُولِهِ)، أي: قطعوا سيقان البِرسيم من أعلى الجِذر (قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ إِبَانُ قَطْعِهِ)، أي: قبل أوانِ نضجه، وموعد حصاده (بَلْ يَرَوْنَ قَطْعَهُ قَبْلَ نُمُوِّهِ وَإِدْرَاكِهِ أَوْلَى)، أي: مُتعجِّلون في حصده. ورأيهم هذا لا يستند إلى نظرية مُعتبرة في عِلم الزراعة. (عَكْسَ مَا عِنْدَنَا)، أي: خِلافًا لما هو شائع ومُتعارَف عليه في شَمال عُمان والمنطقة الداخلية. (وَلَا يَمْضِي نِصْفُ عَامٍ وَيُثِيرُونَ أَرْضَهُ)، أي: يُزيلون البِرسيم من التربة، ويقلّبونها، ليزرعوا مكانه محاصيل أخرى. وهذا الإجراء والتقليد الظَّفاريّ في زراعة البِرسيم يُخالف العُرف الفِلاحيّ والتوصيات العلمية، وما هو شائع بين العاملين في قطاع الفلاحة؛ حيث اتفق سائر الناس الذين يزرعون البِرسيم على إبقاء جذوره في التربة ما بين سنتين إلى خمس سنوات، وكلَّما استطالت سيقانه تمّ جزّها، واستخدامها في العلف الحيوانيّ. (يُثِيرُونَ أَرْضَهُ)، أي: يحرثونها ويُقَلّبونها، ويُزيلون البِرسيم من جذوره؛ حتى لا ينبت مرةً أخرى، ويزرعون بدلا منه نباتًا آخر. ونقرأ الشاهد اللغوي لكلمة (يُثِيرُونَ) في قول الله تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ ۖ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9)} (14)

طريقة زراعة الْمُسَيْبِلُو

يقول الشَّيخُ عِيَسى الطَّائِيُّ: [وَالْهِيسُ عِنْدَهُمْ لَا يُبَالِغُ فِي حَفْرِ الْأَرْضِ، بَلْ هُي مُجَرَّدُ خُطُوطٍ رَيْثَمَا يَبِينُ أَثَرُهَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَإِذَا أَرَادُوا غَرْسَ الْمُسَيْبِلُو بَذَرُوهُ أَوَّلًا بِمَكَانٍ ثُمَّ إِذَا انْتَشَا نَقَلُوهُ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ، فَيَأْخُذُونَ ثُغْتَا فَيَغْرِسُونَهُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَهٰكَذَا يَفْعَلُونَ بِالْبَاقِي].

وَ(الْهِيسُ عِنْدَهُمْ)، بعد عملية إثارة التربة وتقليبها وتُسمّى (الحِراثة) وإزالة ما فيها من البرسيم يقوم الفلاحون بتخطيط التربة، ثم عمل حُفَر متجاورة على جانب الخطوط، ثم تُوضع في كل حفرة مجموعة من حبوب الذرة، أو أي نبات يُزْرَع بعملية البذر، ثم يردمون البذور، ويهيلون عليها التراب بأرجلهم، ثم يروونها بالماء. (لَا يُبَالِغُ فِي حَفْرِ الْأَرْضِ)، أي: لا يهتم العامل الفلاحي بتعميق الحُفَر المتجاورة على الخطوط، (بَلْ هُيَ مُجَرَّدُ خُطُوطٍ) (رَيْثَمَا) كَلِمَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ مقطعين (رَيْث) و(ما)، و(الرَّيْثُ): مقدار المُهلة من الزَّمن، وتأتي متَّصلةً بـ (ما)، أي: يتمهلون حتى (يَبِينُ أَثَرُهَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ) (وَإِذَا أَرَادُوا غَرْسَ الْمُسَيْبِلُو) (البازاريُّ)، أي: البرسيم الحجازيّ، وهو محصول عَلَفِيّ ويُسَمّى في اللهجات الظَفارية الدارجة الـ(مَسْيبْلُو). وهو مع الذرة الرفيعة العلفية، من النباتات التي لا تستهلك المياه ويُفضَل في المناطق الجافة؛ لذا هو خَيَار زراعيّ جيد في ظَفار. (بَذَرُوهُ أَوَّلًا بِمَكَانٍ)، أي: وزَرَعَوهُ، وأَلْقوهُ بَعْدَ حَرْثِ الأرْضِ. أي: شَتَلُوه في أرض غير مستديمة. حتى (إِذَا انْتَشَا) نَبَتَ ونَمَى (نَقَلُوهُ) أَخَذُوا الشتلات (إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ) أرضًا مستديمة (فَيَأْخُذُونَ ثُغْتَا) الثَّغَت: النبات قبل أن يُزهر، وقبل أن تخرج حبوبه وثمراته (فَيَغْرِسُونَهُ) (فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ) في أرض مستديمة.

صناعة الأعلاف الحيوانية

يقول الشَّيخُ عِيَسى الطَّائِيُّ: [فَيَنْتَشِي ذَا أَعْوَادٍ دُقَاقٍ، فَإِذَا سَنْبَلَ صَغِيرًا صَغُرَ حَجْمُ قَضِيمِهِ، وَهُمْ يَكْسِرُونَ قَضِيمَهُ ويَزْعُمُونَ أَنَّ ذٰلِكَ أَدْعَى لِبَقَاءِ الْحَبِّ فِيهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْقَضِيمَةَ إِذَا كُسِرَتْ ذَبُلَتْ وَصُوِّحَتْ وَانْقَطَعَتْ عَنْهَا مَادَّةُ الْحَيَاةِ الَّتِي تُنَمِّيهَا وَتُنْشِيهَا. وَغَايَةُ مَا نَقُولُ: إِنَّ أَهْلَ ظُفَارَ قَلِيلُو الْمَعْرِفَةِ بِعِلْمِ الْفِلَاحَةِ.].

(فَيَنْتَشِي ذَا أَعْوَادٍ دُقَاقٍ) (يَنْتَشِي) ينمو البِرسيم ويتطاول، (ذَا أَعْوَادٍ) و(عيدان) سيقانه. وهي جموع ومفردها: (عُود). وشاهده اللغويّ نقرأه في قول عبَّاد بن شداد اليربوعيّ التميميّ، يذكر طول عمره، وكيف أصبح رهين البيت يستند على أعواد من خشب الشجر: “يَا بُؤْسَ للشَّيْخِ عَبَّادِ بنِ شَدَّادِ/ أَضْحَى رَهِيَنةَ بَيْتٍ بَيْنَ (أَعْوَادِ) (15)“(أَعْوَاد بِرسيم دُقَاق)، أي: ناعمة ليِّنة. و(دُقَاق) صفة مُشبّهة. ونقرأ شاهدها في قول أبو قُردودة الطائيّ، يصف سحابًا ينزل مطره: “فَلَّمَا تَنَزَّلَ عَنْ صُلْبِهِ/ وَمَسَّ مِنْ الأَرْضِ تُرَابًا(دُقَاقَا)مَرَتْهُ الصَّبَا وَانْتَحَتْهُ الْجَنُوْ/بُ تَطْرَحُ عَنهُ جَهَامًا رِقَاقَا(16)“(فَإِذَا سَنْبَلَ صَغِيرًا صَغُرَ حَجْمُ قَضِيمِهِ) (سَنْبَلَ)، أي: خرج سُنْبَلُه. وهو فعلٌ لازم، والشاهد اللغويّ فيه نقرأه عند كعب الأحبار في قوله: “يَا مُوسَى أَوْقِدْ تَنُّوْرًا، وَأَلْقِ فِيْهِ الْبَذْرَ، فَفَعَلَ. فَإذَا بِالْحِنْطَةِ قَدْ نَبَتَتْ وَ(سَنْبَلَتْ) فِي وَسَطِ النَّارِ(17)، (وَهُمْ يَكْسِرُونَ قَضِيمَهُ) (يَكْسِرُونَ) يهشِّمون أعواد البِرسيم بعد تجفيفها، ثم تحويلها إلى (تِبْن) أو ما يسمّى بـ(القَضِيم)، أي: علف يابس. ونقرأ شاهده اللغوي في قول أُمّيّة بن أبي الصَّلت الثقفيّ، يصف جهنم وإيقادها: “تُحَشُّ بِصَنْدَلٍ صُمٍّ صِلَابِ/ كَأَنَّ الضَّاحِيَاتِ لَهَا (قَضِيْمُ) (18)“.(ويَزْعُمُونَ) يقولون، فعلٌ لازم، ونقرأ شاهده اللغويّ في قول أبي داود الإياديّ، يخبر عن شكوى امرأته من تبذيره: “(زَعَمَتْ) لِي: بِأَنَّنِي أُفْسِدُ الْمَا/ لَ، وَأَزْوِيْهِ عَنْ قَضَاءِ دُيُونِي(19)أَنَّ ذٰلِكَ (أَدْعَى) اسم تفضيل، والمعنى: (أفضل)، أي: الأكثر دعوةً لِـ(بَقَاءِ الْحَبِّ فِيهِ)، ونقرأ شاهده اللغويّ في قول تأبَّط شرًّا الفهميّ: “أُوْلَئِكَ أَعْطى لِلْوَلَائِدِ خِلْفَةً/ وَ(أَدْعَى) إلى شَحْمِ السَّدِيْفِ الْمُرَعْبَلِ(20)“(وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْقَضِيمَةَ إِذَا كُسِرَتْ ذَبُلَتْ) (وَلَا يَخْفَى)، أي: من المعلوم الظاهر الواضح للعيان. والشاهد اللغويّ عليه نقرأه عند امرئ القيس بن حُجْر الكِنديّ، يصف خروج فئران الأرض من جحورها مذعورةً من عَدْوِ الفرس: “تَرَى الْفَأْرَ فِي مُسْتَنْقَعِ الْقَاعِ لَاحِبًا/عَلَى جَدَدِ الصَّحْرَاءِ، مِنْ شَدٍّ مُلْهِبِ خَفَاهُنَّ مِنْ أَنَفاقِهِنَّ، كأنَّما خَفَاهُنَّ وَدْقٌ مِنْ عَشِيٍّ مُجَلِّبِ(21)وَ(صُوِّحَتْ) تَشَقَّقَتْ أوراق البِرسيم ويَبَسَتْ أعوادُه. ونقرأ شاهدها اللغوي في قول ذِي الرُّمَّة، يصف تجفيف الرياح الحارّة للنبات: “وَ(صَوَّحَ) البَقْل نَأَّاجٌ(22) تَجِيُء بِهِ/ هَيْفٌ يَمَانِيَّةٌ فِي مَرِّهَا نكَبُ(23) وَ(انْقَطَعَتْ عَنْهَا مَادَّةُ الْحَيَاةِ)، أي: العمليات الجزيئية داخل الكائنات الحيّة، أو الجزيئات الحيويّة الأساسية (مثل الماء، الدهون، السكريات، والمعادن)، التي يتكون منها كل كائن حيّ(24) وَ(غَايَةُ مَا نَقُولُ)، أي: خلاصة ما أقوله، أو جوهره، أو النقطة الأساسية في كلامي حول حِرْفَة الزراعة في ظَفار، والهدف الأسمى الذي انتهيتُ إليه (إِنَّ أَهْلَ ظُفَارَ قَلِيلُو الْمَعْرِفَةِ بِعِلْمِ الْفِلَاحَةِ). ويرجع هذا الحكم غير الجائر من الشيخ عيسى لما ذكره سابقًا في صفحة من صفحات هذا المخطوط، حيث أكّد أن النشاط الاقتصاديّ وعموده الفقري في ظفار يتمحوّر حول التجارة، وذلك لما تتمتع به الأنشطة التجارية من عوائد ربحية سريعة، وسريعة النمو خِلافًا للنشاط الزراعيّ، الذي يحتاج إلى تؤدة وتمهّل في جني أرباحه.

……….

المراجع والمصادر:

(24) انظر: كتاب مادة الحياة، إيريك.ب. وايدمير، لمركز القومي للترجمة، 2014م.

شاركها.