لا بأس أن تتعافى ببطء.. المهم أنك تمضي

عائشة بنت سالم المزينية
ليس من السهل أن تعيش شيئًا لا يستطيع أحد أن يشعر به كما تشعر به؛ فالألم حين يسكن داخلك لا يحتاج إلى شرح؛ بل إلى صبر طويل، ولا يسهل عليك أن تشرح ما يُؤلمك دون أن تضطر لابتسامة باهتة تخفي بها الحقيقة، ثم تمضي وكأن شيئاً لم يكن.
تمُر أيامٌ تبدو ثقيلة على القلب، وبطيئة على الوقت، كأنها لا تنوي الانتهاء. وتصبح التفاصيل الصغيرة مثل النهوض من السرير، أو الرد على رسالة، أو الخروج من المنزل… إنجازات خفية لا يراها أحد، لكنها عندك تعني الكثير. وتعيش لحظات لا تشعر فيها سوى بأنَّك تحاول أن تتنفس، ثم تحاول أن تكون بخير، ثم تحاول فقط أن تمضي دون أن تنكسر من جديد. وفي مثل هذه المراحل، لا تحتاج إلى من يقول لك: “تجاوز بسرعة”، بل إلى من يهمس لقلبك: “خذ وقتك، فالمهم أنَّك ما زلت تمضي”.
وكثير ما يُطلب منَّا أن نتماسك، أن نُظهر قوتنا مهما كان الألم، وكأنَّ الضعف لم يُخلق للبشر. فنتعلم أن نخفي دموعنا، ونجيد لبس الأقنعة، ونسير بين النَّاس كأن شيئاً لا يؤلمنا. ونجبر أنفسنا على النهوض حتى عندما نكون في أمس الحاجة إلى التوقف، فقط كي لا يُقال عنَّا إننا استسلمنا. ومع كل هذا التظاهر، ننسى أن الشجاعة لا تعني الإنكار، وأن التمهل ليس تراجعاً، وأن البكاء ليس عيباً. فكل ما نحتاجه أحياناً هو أن نكون صادقين مع أنفسنا، أن نعترف بأننا متعبون، وأن نمنح أرواحنا فرصة للهدوء بعيداً عن ضغط التوقعات.
فحين تنكسر بشدة، لا تتوقع أن تعود كما كنت في ليلة وضحاها. فالقلوب لا تُرمم بسرعة، والمشاعر لا تُضمد دفعة واحدة. وكم من أرواح أنهكها التسرع في تجاوز ألمها، فارتدت إلى الحزن أضعافاً. إذ لا يُداوى الجرح بإنكاره، بل بالاعتراف به أولا، ثم التعايش معه، ثم تجاوزه حين تنضج النفس من داخلك، لا حين يُطالبك النَّاس بذلك.
ثم إننا ننسى أنَّ لكل شخص طريقاً يخصه. فما يُناسب غيرك، قد لا يناسبك، وما استطاع أحدهم تخطيه في شهر، قد يأخذ منك عاماً. والتشافي ليس بالمواعيد، ولا يُقاس بعدد الأيام، بل بحجم الصدق الذي تُعامل به قلبك. وكم من تعافٍ شكلي زاد الأمور سوءًا، فقط لأن صاحبه استعجل النهاية قبل أن يتعلّم من البداية.
وإذا استيقظت يومًا، وشعرت أن كل ما تريده هو أن تبقى في سريرك، فلا توبخ نفسك؛ لأنَّ جسدك أحياناً يعرف ما لا تعرفه، ويُخبرك بطرق صامتة أن الوقت قد حان لتأخذ نفساً عميقاً. وإن أنهيت يومك دون إنجاز يُذكر، فاعتبر مقاومتك للشعور بالانهيار إنجازاً في حد ذاته.
وكم من موقف بسيط مرّ بك، لكنه أعادك خطوات إلى الوراء؛ فلا تقلق، هذا جزء من الطريق. والرجوع لا يعني الفشل؛ بل يعني أن هناك ما لم تُشفَ منه بعد. ولا بأس، طالما أنك تعي ذلك، وتسعى بهدوء لأن تُكمل المسير. لأنَّ الوعي نصف التعافي، والقبول نصفه الآخر.
وحين تشعر بأنَّ العالم يمضي من حولك، وأنك الوحيد العالق في مكانك، ذكّر نفسك أن جذور الشجرة لا تظهر على السطح، لكنها تمتد في عمق الأرض بصمت. وهكذا أنت، تبدو ساكن، لكن داخلك يعمل، وروحك تتغير، وقلبك يعيد تشكيل نفسه بهدوء.
فلا تُقارن نفسك بغيرك، ولا تستعجل ما يحتاج وقت لينضج؛ لأن الألم ليس عيب، والصبر ليس ضعف، والتباطؤ لا يعني أنك لا تتقدم؛ بل كل خطوة مهما كانت صغيرة، فهي تقربك من العافية. وكل لحظة تصبر فيها، تُضيف إلى روحك صلابة لا تراها الآن، لكنك ستشكر نفسك عليها لاحقًا.
وإذا شعرت أن لا أحد يفهمك، فلا تظن أنَّ مشاعرك غير مُهمة. فقط لأنك لم تجد من يستوعبك، لا يعني أنَّ ما تمر به سهل. فبعض الآلام لا تحتاج تفسيرات؛ بل حضن دافئ، أو كلمة صادقة، أو حتى صمت من شخص يشعر بك دون أن تتحدث. وكم من قلب نجا، فقط لأنه وجد من يقول له: خذ وقتك، أنا معك.
ثم إنك في كل مرة تُهزم فيها من الداخل، وتعود لتُحاول من جديد، فذلك وحده كفيل بأن يُسمى نصر. لأنَّ أقسى المعارك لا تُخاض في ميادين الحرب، بل في عمق الصدر، حيث لا يراك أحد، ولا يصفق لك أحد، لكنك تخرج منها بصمت وكرامة.
ولا أحد يستطيع أن يمنحك جدولا زمنيا لتجاوز حزنك، أو خطة دقيقة لوقف نزيف قلبك. لأنك وحدك تعرف عمق الألم، ووحدك تقرر متى تستعيد أنفاسك. فامنح نفسك ما تحتاجه، ولا تكن قاسياً عليها، لأنها تعبت كثيرا وأخفقت أكثر.
وإذا جاءك من يُخبرك أنَّ الوقت يمر سريعاً، فقل له إنك لا تقيس أيامك بالساعة؛ بل بمقدار ما يُشفى منك؛ لأن الساعة لا تفهم ما تعنيه الذكرى، ولا تقيس ثقل الدمعة، ولا تدري كم صوتا داخليا تُسكت كل ليلة.
النجاة لا تكون دائمًا باجتياز المرحلة بسرعة؛ بل أحياناً تكون في البقاء طويلاً حتى تتعلم كل شيء، ثم تمضي وأنت ممتلئاً بالتجربة، لا بالمرارة. ولأنك إن استعجلت، قد تجد نفسك تعود لنفس النقطة من جديد، فتكرار الألم أوجع من أَلَمِه الأول.
وحين تمضي ببطء، لا يعني أنك لا تمضي. فالسير بخطى ثابتة خير من الجري بلا وعي. والتأني في الشفاء يجعلك أكثر فهماً لذاتك، وأكثر تقديراً لنعم صغيرة لم تكن تلتفت لها من قبل. وكم من لحظة هدوء، جعلتك تُدرك أنَّ الله كان معك طوال الطريق، حين ظننت أنك وحدك.
ثم تأتي تلك اللحظة التي تنظر فيها للخلف دون أن تنكسر، وتبتسم رغم كل ما مررت به، وتقول بقلب راضٍ: نعم، استغرق الأمر وقتًا، لكنني نجوت!