مدرين المكتومية
خلال الأيام الماضية، عاشت منطقتنا لحظات عصيبة، لحظات امتزج فيها الخوف المشوب بالرعب مع الدهشة المُفزِعة تجاه كل ما يجري من حولنا، لحظات كان من الوارد للغاية أن تخرج الأوضاع عن السيطرة وينفجر الصراع فيقضي على الأخضر واليابس، ويضعنا أمام مصير محتوم، لم يكن لينجو منه أحد!
أكتب هذه السطور، وقد التقط العالم أنفاسه، وتنفس الصعداء، وشعر نسبيًا بالاطمئنان، على أنَّ المنطقة ابتعدت قليلًا عن حافة الهاوية التي لا قرار لها، وانقشعت سُحب الغبار النووي التي لربما كانت قاب قوسين أو أدنى من منطقة الشرق الأوسط برمتها، وتلاشت سيناريوهات الدمار الشامل. فبعد أن اتخذ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قرارًا غير مسبوق بضرب المفاعلات النووية الإيرانية بقنابل خارقة للتحصينات، ومن قبلها الهجمات المُتبادلة بين إيران وإسرائيل، أسدل الستار على هذا الرعب الإقليمي، بهجوم إيراني لا مثيل له على قاعدة العديد الأمريكية الجوية في دولة قطر الشقيقة، وعاش الشعب القطري الشقيق ساعات عصيبة من القلق والخوف والتوتر، وتلبدت سماء الخليج بنيران الصواريخ الباليستية والصواريخ الاعتراضية، واقتربت المنطقة أكثر وأكثر من فوهة البركان، الذي لو كان انفجر، لتسبب في محو معالم الحياة بالمنطقة، لا قدَّر الله.
ولا ريب أنَّ ما تعرضت له المنطقة خلال 12 يومًا من الحرب بين إيران وإسرائيل، قد علمنا الكثير من الدروس والحكم، وأثبت لنا مدى الحكمة التي أرسى دعائمها السلطان الراحل قابوس بن سعيد، من حيث تبني الحوار والدبلوماسية لحل أي خلافات، وعدم التَّدخل في شؤون الدول، والأهم من ذلك ترسيخ مبدأ “الحياد الإيجابي”، وهي جوهرة تاج الدبلوماسية العُمانية، والتي واصل السير على نهجها بكل اقتدار وحنكة مُنقطعة النظير حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم حفظه الله ورعاه؛ حيث سعت عُمان منذ اللحظة الأولى لهذا الصراع العبثي في المنطقة، لنزع فتيل الأزمات، ورأب الصدع، والعمل على إرساء السلام والاستقرار، بما يضمن حفظ المكتسبات الوطنية في كل دولة من دول إقليمنا الذي فيما يبدو كُتِبَ عليه أن يظل في حالة صراع واشتعال دائمًا.
ويكفي أن نرى أنَّ الدول التي انزلقت في مسارات بعيدة عن السلام، وتورطت في صراعات إقليمية، فإنها اليوم تعض أصابع الندم على ما اقترفته من سياسات خاطئة تسببت في دفع المنطقة نحو حافة الدمار غير المسبوق.
لقد تابعتُ خلال الفترة الماضية تطورات الأحداث، وتبيّن لي مدى الفوضى التي تعم منطقتنا والعالم، بسبب اختلال موازين القوى العالمية، وتفرُّد دولة واحدة بالقرار العالمي، وفرض هذا القرار بالقوة والبلطجة، بعيدًا عن الدبلوماسية والحوار الهادف. تسببت الأحادية القطبية التي باتت تحكم هذا العالم، تحت إمرة الولايات المتحدة الأمريكية، في أن يُمارس القوي البطش والجبروت على الضعفاء والمستضعفين، وحرب الإبادة الشاملة في قطاع غزة نموذج صارخ لهذه القوة الغاشمة والبربرية، وبرهان ساطع على أنَّ الإجرام الصهيوني لا يراعي أية قوانين دولية ولا مواثيق أممية، وأن شريعة الغاب أصبحت تسود هذا العالم.
ومن هنا، فإنَّ البيان الصادر عن وزارة الخارجية على لسان ناطق رسمي، يعكس عُمق اخبار عمان العُمانية الحكيمة، التي تنظر إلى أصل وجذور الأزمة، لا إلى تداعياتها ونتائجها وحسب، لذلك جاء الاستنكار العُماني للتصعيد الإقليمي المُتواصل الذي تشهده المنطقة، وأكد أنَّ هذا التصعيد تسببت فيه دولة الاحتلال إسرائيل، قبل 12 يومًا، عندما شنت بدون وجهة حق وبلا مبرر قانوني ومن منطلقات غير مشروعة، هجومها الصاروخي على الجمهورية الإسلامية الإيرانية، الأمر الذي تسبب في تبادل الهجمات الصاروخية المتواصلة، وانتهى هذا التصعيد بالقصف الصاروخي الإيراني لمواقع سيادية في دولة قطر الشقيقة.
لقد دعت سلطنة عُمان إلى “ضرورة الوقف الفوري للأعمال العسكرية والصاروخية جميعها وتغليب الحكمة في اللجوء إلى المفاوضات السلميّة والاحتكام للقانون الدولي في معالجة أسباب الصراع وتحقيق التسوية العادلة بالوسائل المشروعة”، وهي المعالجة التي يجب أن تتم بعيدًا عن إهدار المزيد من الوقت في مهاترات لا طائل منها. وحديثنا هنا يجب أن ينصب على مسألة إحلال السلام الشامل والدائم، وإقامة الدولة الفلسطينية المُستقلة وعاصمتها القدس، بل علينا أن نطرح فكرة أكثر عمقًا ووعيًا، تتمثل في الدعوة إلى عودة اليهود إلى أوطانهم التي وفدوا منها إلى أرض فلسطين الأبية، وأن يتركوها لأهلها الذين ضحوا على مدى أكثر من 77 عامًا بأرواحهم، وهُجِّروا من أرضهم بالقوة وبالدماء.
أقول ذلك وقد أدرك اليهود أنَّ هذه الأرض ليست لهم ولا يجب أن تكون، فقد كشفت الحرب الإيرانية الإسرائيلية عن مدى هشاشة المُجتمع الإسرائيلي، الذي فرَّت أعداد كبيرة منه إلى خارج إسرائيل، فيما بات يُعرف بـ”الهجرة العكسية”، لأنهم يعلمون تمامًا أنَّ هذه الأرض ليست لهم، وأنهم مجرد مُستعمرين وليسوا أبناء هذا التراب ولا ينتمون له من الأساس.
الحرب التي دارت رحاها على مدى 12 يومًا، كشفت لنا كذلك أهمية الحفاظ على بُنياننا الوطني وحمايته من أي اختراق، سواء كان ذلك اختراقًا ثقافيًا أو معرفيًا أو معلوماتيًا، الأمر الذي يستدعي ضرورة تعزيز قيم المواطنة وغرسها في نفوس أبناء هذا الوطن وكل أوطان الخليج. لقد تضررت إيران أشد الضرر بسبب حوادث الاختراق التي عانت منها، وفقد قادة كبار أرواحهم نتيجةً لهذا الاختراق الذي نفذه العدو الصهيوني، ما يُؤكد ضرورة تعزيز التحصينات المجتمعية ضد أي فعلٍ مشابه.
وأخيرًا.. لا بُد من التأكيد على أن السلام والاستقرار في منطقتنا العربية لن يتحقق إلّا بحصول العشب الفلسطيني على كامل حقوقه، وعودة المُهجَّرين إلى وطنهم، وإنهاء حرب الإبادة في غزة، ومُحاسبة المُجرمين على كل الجرائم البشعة التي ارتُكِبَت بحق الشعب الفلسطيني، وأولها محاكمة ومعاقبة المجرم الإرهابي بنيامين نتنياهو وعصابته الإجرامية الدموية.. وما لم يتحقق ذلك، لن تنعم منطقتنا لا بالأمن ولا بالاستقرار.