د. مجدي العفيفي
(1)
نعم.. لا تُعلّقوا الجواهر في أعناق الخنازير.
في كل زاوية من هذا العالم، ينتصب خنزير يتباهى بعقد من الجواهر لا يدري عنها شيئًا.. يركض في الطين، يلوّثها، ثم يرفع رأسه مزهوًّا ليقول: “انظروا إليّ! انظروا إلى بريق ما أملك!”
لكن البريق لا يرفّ في أعين العميان. والجواهر لا ترفع قدر السفهاء.
لا تُهدروا اللآلئ على من لا يعرف قيمتها، لا تُهْدوا النور لمن أدمن العيش في الظلام، ولا تُزيّنوا القبح بما لا يستحق إلا النزع لا التجميل.
في بداياتها، كانت جائزة نوبل للسلام تبدو كأشرف الأوسمة على صدر الإنسانية. حين تُذكر أسماء مثل مارتن لوثر كينغ أو نيلسون مانديلا، تشعر أنَّ العالم ما زال يملك ضميرًا حيًا يكرّم الكفاح ضد العنصرية والاستبداد. لكن بمرور العقود، تسللت السياسة إلى قلب الجائزة، وتحوّلت شيئًا فشيئًا من وسام للشرف إلى وسام للخيانة.
(2)
والآن ترامب؟ الرجل الذي يتباهى بأنه «أنهى ثماني حروب»، يريد الجائزة وكأنها ميدالية رياضية. يزعم أن حرمانه منها سيكون «إهانة للولايات المتحدة»، وكأنَّ نوبل تحوّلت إلى ملحق بالبنتاجون.
أي سلام هذا الذي يتحدث عنه من باع السلاح في كل اتجاه، ومن أدار سياسات أشعلت الشرق الأوسط وعمّقت الانقسامات؟
حين تُمنح الجائزة لمن يُشيطن الضحية ويجمّل الجلاد، حين تتحول إلى ورقة انتخابية أو رشوة سياسية، فإنها تسقط أخلاقيًا حتى لو ظل بريقها في الإعلام. وسام الشرف لم يعد شرفًا، بل عقدًا زائفًا في عنق من لا يستحق.
أي سقوط أعمق من هذا؟ هل صارت نوبل مجرد خاتم زينة في أصابع المُهرجين؟
ترامب يلهث خلف جائزة نوبل للسلام، ويزكي لنفسه سجلاً من «إنهاء ثماني حروب» كأنه مُنقذ البشرية، بلا حياء أو خجل، يطالب بالتكريم ويعتبر عدم منحه جائزة إهانة للولايات المتحدة «الأمريكانية».
دعونا نترجم هذه الغرورية ببساطة: هو يُريد ميدالية شرف ليُؤطر بها سياسات تُقاس بصفقات السلاح، بحروب بالوكالة، وبتحالفات رحّالة تغير وجه الشرق كما يتغير وجه السجادة تحت أقدام التجار.
لا تُعطَ الجواهر لمن يبيعها في سوق الطين، ولا تُوّج القتلة بميداليات السلام.
(3)
سلام وفق لغة السوق؛ إذ إن هناك سلاماً يعلنونه في القاعات المؤثثة بالذهب، وسلامٌ آخر تفرضه القنابل وأجندات المصالح.. فمن يصف «إنهاء ثماني حروب» على أنه إنجاز يستحق جائزة لا بُد أن يشرح: بأي ثمن؟ كم من مدنيٍ، كم من طفلٍ، كم من أرضٍ دُمِّرت؟
هل الإنجاز هو إقرار باتفاقيةٍ تُلبس الاحتلال ثوب الشرعية أم سحبٌ محتال للقوات يترك فراغًا تُملؤه الجماعات المتطرفة أو اللاعبين الإقليميين الأكثر وحشية؟
السلام الحقيقي يُقاس بعودة الناس إلى منازلهم، بفتح المدارس والمستشفيات، بعودة الحقوق والحقوق فقط لا بصفقات سياسية تُقايض الكرامات. إنجاز السلام ليس توقيعاً على ورقة، بل بناء دولة تحترم شعبها وتُعيد له حقه في الحياة والكرامة.
(4)
لا تُهدروا اللآلئ على من لا يعرف قيمتها.. فالجواهر رمز للقيمة، للمدى الذي يصلح أن يُهدى لأهل الاستحقاق. من يلوّث اليد التي تحمل الجوهرة، من يبيع عدالته ونزاهته، لا يصلح أن يُزَيَّن بها.
من يطلب نوبل للسلام بينما تسقط ضحايا قراره أو حساباته السياسية، يطالب العالم أن يبارك له سرقة الحقيقة وتجميل القبح.
هذا سؤال أخلاقي قبل أن يكون سياسياً: هل نسمح لمن صار بيعُ ضميره وسيلة لتحقيق مكاسب شخصية أن يرتدي تاج السلام؟
من القديسين إلى المهرجين.. لقد بدأت نوبل رحلتها وهي تتويج لنضال الأبطال الحقيقيين، لكن ها نحن اليوم نسمع دونالد ترامب الملياردير الفظ، المهووس بذاته، والمهرج السياسي يلهث وراءها. لا يكتفي بأن يرشح نفسه، بل يزكّي ذاته بوقاحة فيقول: “أستحق جائزة نوبل للسلام لأنني أنهيت 8 حروب!”. ويضيف: “عدم حصولي على الجائزة سيكون إهانة للولايات المُتحدة!”
ترامب.. قاطع الطريق بوجه الحمل.. ترامب لم يكن رجل سلام يومًا. في عهده: صُفّيت قضية فلسطين بصفقة القرن الملعونة.. نُقلت سفارة واشنطن إلى القدس، في اعتداء سافر على التاريخ والحقوق.. زادت مبيعات السلاح بمئات المليارات؛ ليتحوّل الشرق الأوسط إلى سوق دماء.. اُغتيلت القيادات بدم بارد في خرق فاضح للقانون الدولي.. تفككت المنظمات الدولية أكثر، مع انسحابات تهدد أي منظومة سلمية عالمية.. ثم بعد كل هذا، يطل بوجهه الملوّث بالصفقات والدماء، ليتحدّث عن “إنهاء الحروب”!
هنا ينكشف العار: إذا مُنحت نوبل لترامب، فلن تكون إلا شهادة وفاة أخلاقية للجائزة؛ بل إن مجرد ترشحه يكفي ليدفن ما تبقى من هيبتها. كيف يمكن لجائزة وُلدت لتكريم أنبل القلوب أن تصبح لعبة في يد أوقح مهرج سياسي عرفه العالم؟
(5)
الحديث عن «إهانة الولايات المتحدة الأمريكانية» إذا لم تُمنَح الجائزة هو، بالبساطة الفاحشة، إعلان عن عقلية إمبراطورية ترى نفسها فوق النقد ومصانة من المساءلة.
هذه العقلية تُحكم بعلاقاتها مع الرأسمال والسلاح والإعلام؛ تزرع الحلفاء على مقاس مصالحها، وتُعاقب من يقف في وجه مشاريعها.. أن تطالب نوبل باسم «الولايات المتحدة» هو طلب شرعيّة لسطوة استراتيجية، لا اعتراف بسلام فعلي.
نحن أمام مرآة نفاق: يُمنح التكريم السياسي لمن يلعب اللعبة بشكل جيِّد، حتى لو كان ثمن اللعبة دم شعوب بأكملها، لذلك علينا أن نرفض هذا التزييف الرمزي الذي يحوّل الجوائز إلى ستار تغطى به الجرائم.
(5)
أيّ رسالة نريد أن نرسل؟
إلى من لا يزال يماطل في وضوح المواقف: لا تُعلّقوا الجواهر في أعناق من تجلس مصالحهم فوق رقاب الشعوب.
لا تُطبطبوا بالثناء على من يلوّح بالهدنة كبديل عن العدالة. لا تخلطوا بين انتهاء دورٍ عسكري مؤقت وتحقيق سلام دائم يبنى على حق الشعب في تقرير مصيره.
(6)
الجواهر مكانها خزائن الشرف، لا تُعلّق في أعناق الخنازير. لا لأننا صقور أخلاقية فحسب، بل لأننا شعب يملك ذاكرة لا تموت، وكرامة لا تُباع.
من يُريد التكريم فليُثبت أنَّه أهلٌ له بعملٍ يخلّد اسمَه في سجلِ الإنسانية لا ببيانٍ إعلامي أو خطاب انتهازي.
دعوا الألقاب لمن يزرعون السلام حقًا: من يبنون دورًا للمواطن لا منصّة لنشر النفوذ؛ من يضمن العودة الآمنة للمدنيين؛ من يُعيد الحقوق بدلاً من تبادلها في مزاد المصالح.
أما من يُريد نوبل ليمسح به ماء الطين عن وجهه، فليُترك مع عقده الملوّث؛ فالجواهر تستحق أن تُحفظ في خزائن الشرف، لا أن تُداس في الوحل.
(7)
يتبقى سؤال: هل يتوقع أن يحصل عليها هذا المهرج؟
بمنطق الجوهر: لا وألف لا، هذا المهرج لا يستحق حتى وردة بلاستيكية، فكيف بجائزة نوبل للسلام.
لكن بمنطق السياسة الدولية، وبمنطق الجوائز التي كثيرًا ما تحولت إلى أداة تلميع للنخب القذرة.. فكل شيء مُمكن!
(8)
ثمَّة سوابق للجائزة:
أوباما أخذها عام 2009 وهو كان قد بدأ للتو في إرسال مزيد من القوات إلى أفغانستان!
أنور السادات.. والإرهابي بيجين حصلا عليها رغم أنَّ “السلام” كان على جثث حقوق الفلسطينيين. ومن بعده حصل الإرهابي شيمون بيريز عليها عام 1994 واقتسم الجائزة مع كل من ياسر عرفات ورئيس الوزراء الصهيوني إسحاق رابين، عقب اتفاقية أوسلو التي وقعتها إسرائيل مع منظمة التحرير الفلسطينية عام 1993.
حتى منظمات مشبوهة حصلت عليها لتغطية عورات سياسية.
يعني نوبل ليست معيارًا مطلقًا للأخلاق أو السلام، بل أداة سياسية تُستخدم وقت الحاجة.
للغرب حسابات مع ترامب، فالمؤسسة الغربية التقليدية (الناتو، الاتحاد الأوروبي، اللوبيات) تحتقر ترامب وتراه مهرّجًا يهدد النظام الليبرالي التقليدي.. ولجنة نوبل أقرب فكريًا وسياسيًا لهذه المؤسسات، وبالتالي ترشيح ترامب والفوز بها يعني شرعنة شخص تراه أوروبا تهديدًا مباشرًا.. لذلك الاحتمال ضعيف جدًا إلا إذا تغيّر ميزان القوى وفرضت أمريكا نفسها بقوة خلف الكواليس.
ترامب نفسه لا يُريد الجائزة من أجل السلام، بل يريدها ليحشوها في حملته الانتخابية ويقول: أنا رجل سلام أعظم من أوباما.. يعني يريدها ورقة دعائية، لا أكثر.
هل يستحقها؟ مستحيل. هل يُمكن أن يحصل عليها؟ ممكن، لكن الاحتمال ضعيف جدًا إلا إذا أرادت المؤسسات الغربية أن تُحوِّل نوبل إلى سيرك انتخابي أمريكي.
الجائزة أصلًا فقدت هيبتها منذ زمن طويل. فحتى لو عُلّقت في عنقه، سيظل المشهد: جوهرة في عنق خنزير!
ونُواصل مع الذين علقوا ويعلقون الجواهر في أعناق الخنازير.