اخبار عمان

لحن التجربة الإنسانية | جريدة الرؤية العمانية

 

هند الحمدانية

تُقاوِمُ الموسيقى لتساندَ الحق وتُناضل في سبيل الحرية، ولتفتح بابًا لذكرياتٍ وصور وأصوات ظنَّناها خفتت دون عودة، تُقاوِم في عالمٍ أصبح يحترف الظلم والكبت واغتيال الحقائق؛ فتنبثقُ ألحانها مُحتلةً الفضاءات والمسامع؛ لتُشكِّل بمقاومتها المشروعة سلاحَ النور الذي يُعالِج أوجاع الإنسانية، ويَحِنُ على أفئدةٍ أثقلتها المُعاناة الطويلة؛ فهي دواءٌ فعّال في عالمنا المُعاصر لأولئك الذين يُعانون من الحبسة التعبيرية؛ حيث يفقدون قدرتهم الجزئية أو الكلية على التعبير أو الكلام، تُجبرهم في نهاية المطاف على الصراخ الطويل داخل صمت عقولهم المُحكَمة.

تخلقُ الموسيقى مسارًا بديلًا في أدمغتنا لنستشعر الأمان والأمل والدفء والاستمرار، فتربطنا بأنفسنا أولًا ثم بالآخرين لنحيا لحن التجربة الإنسانية، رغم الأسوار والحدود وتعدُّد اللُغات.

نتعمقُ في هذا المقال في تجربة موسيقية جديدة على الأغنية العربية والعُمانية.. إنِّها “ثلاثية غزَّة” بتركيبتها الفريدة للموسيقار العُماني الدكتور ناصر الطائي، والتي أطلقها للمرة الأولى خارج سلطنة عُمان، على مسرح الجمهورية بالعاصمة المصرية القاهرة في حفل فخم قاد الأوركسترا فيه المايسترو المصري جورج قُلته، وقدمتها السوبرانو المصرية أميرة أحمد والفنانة السورية لينا شماميان. وشكَّلت الثلاثية فلسفةً عميقةً وملحمةً إنسانيةً؛ حيث تتداخل ثلاث أغانٍ عضويًا؛ لتُشكِّل جسدًا بفكرٍ عربيٍ، تقوده أوركسترا على الطراز الغربي؛ حيث يسري نفس اللحن الموسيقي من منتصف الأغنية الأولى لينطلق مُجددًا من منتصف الأغنية الثالثة، مُشكِّلًا وحدةً ثلاثيةً في الموسيقى وارتباطًا دراميًا بين كلمات الأغاني الثلاثة.

وجاءت الأغنية الأولى “غزَّة هاشم” للشاعر الفلسطيني محمد العمور، تجسيدًا لـ”طوفان الأقصى” بمقدمتها الموسيقية التي مثَّلت طقوسَ الحرب بأبواقها النحاسية العالية وكلماتها الأبيّة: “حدثني عن غزَّة هاشم.. عشيقة الشهداء.. وعن سر الشموخ فيها والإباء.. وعن من أتاها.. ليستنشق العزة من هواها.. ويُقَبِّل ثراها.. ويتعلم معاني المجد.. من صغارها الأبرياء…”. ثم الأغنية الثانية “روح الروح” لمؤلفها الدكتور ناصر الطائي، والتي احتضنت مشاعر الحزن والفقد على “روح الروح” فتقول: “روح الروح.. يا قلب مجروح.. طفيتي الشمع.. وتركتي الروح”. ليختم المشهد الغنائي بالأغنية الثالثة: “وحيدة غزَّة” للشاعر العُماني الكبير سماء عيسى، والتي جسّدت الموت (الشهادة) فتقول: “وحيدة غزَّة.. وحيدة تنام وحيدة تستيقظ.. في وسط الظلام….”.

تُعزَف نبضات الموت إلى أن تنتهي نبضات القلب في سبيل غزَّة فقط، وفي كل مرة تقول “وحيدة غزَّة” تسكت الأوركسترا الصاخبة المكوَّنة من أكثر من 50 شخصًا، فيُفقَد الصوت الإنساني معها؛ وذلك تعبيرًا عن مُعاناتها ووحدتها في الحياة والموت.

لقد أعاد الموسيقار الطائي في “ثلاثية غزَّة” رَسْمَ خارطةِ طريقِ الأغنية العُمانية، والتي ظلّت طيلة مرحلة تأسيسها لأكثر من 50 عامًا مُقنَّنة في قالبِ الأغنيةِ الوطنيةِ، والتي تُقدَّم في المناسبات الوطنية لا أكثر. لذا آن الأوان لأن نُحدِّد ونرسم معالم خارطة أغنية عُمانية جديدة، تحملُ مزيجًا من المشاعر الإنسانية التي يعيشها الإنسان العُماني من أملٍ وألمٍ وحبٍ وحزنٍ وشوقٍ وتطلعاتٍ عميقةٍ لما يشعر به العُماني تجاه ما يجري حوله من أحداث وصراعات إنسانية يؤثر ويتأثر بها.

ومِثل هذا الشكل الجديد من الأغاني يكسر القيود؛ حيث تَجرَّدَ من الارتباط  بمناسبة أو التغني بأشخاص مُعينين، وفي المقابل، تبلور حول مُعاناة الناس ومُلامَسة مشاعرهم وأحاسيسهم الإنسانية؛ لذلك يبقى هذا النوع من الأغاني خالدًا لعشرات السنين. ولاحظنا كذلك عودة للأغنية الطويلة، والتي تحمل بين أجنحتها مشاعرَ متعددةً وعميقةً، وقد تحملُ رُوحًا حائرة بين القوة والانكسار، وبين الأمل والخيبة، وبين الحزم والحنين. كل هذه المشاعر المُتداخِلة مع بعضها البعض تحتاج لأكثر من ثيمة موسيقية واحدة؛ فنجد أن المُقدِّمة الموسيقية ترسم الإطار العام، وبعد ذلك يدخل الصوت الإنساني ويمتزج مع اللحن. وهناك مقطوعات موسيقية مختلفة بين الفواصل، ثم مقطوعة ختامية تُنهي العمل، في محاولة إبداعية لترتيب المعادلة الموسيقية في الغناء العربي؛ حيث اعتدنا أن يكون للصوت الإنساني المقام الأول في الأغنية، ومعه تخفُت بقية الأصوات. لكن في هذه الملحمة، أصبح الصوت الإنساني واحدًا من خمسين صوتًا موسيقيًا آخرَ، تكاملتْ جميعًا لتنتصرَ الموسيقى واللحن في نهاية الملحمة، كفنٍ مُتكامِل لا يحتاج إلى لُغة مكتوبة، وليتحول إلى جسرٍ إنسانيٍ مُعبِّرٍ عن كل شعوب العالم الحُر.

إنَّ “ثلاثية غزَّة” عملٌ إنسانيٌ عميقٌ انسجمت فيه الألحان والمشاعر، من “غزَّة هاشم” عشيقة الشهداء ورفيقة المقاومين الأوفياء، إلى الفقد الموجع والمُتواصل لـ”روح الروح” وفلذات الأكباد، وانتهاءً بـ”وحيدة غزَّة”، وحيدةٌ منذ سبعين عامًا، وحيدة تنام، ووحيدة تقاوم، ووحيدة تجابه الموت، ووحيدة تُلملِم أشلاء أحبتها، ووحيدة تنتصرُ بالشهادة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *