أنيسة الهوتية

حين يغضب الله تعالى ويرفع الرزق عن من يخشى نقصانه، يحرم الناس منه وهم في نسيان أن الرزاق هو الله تعالى وحده لا شريك له، وبأن الرحمة والعطاء هما مغناطيس الرزق من الأساس. كما حصل بالتفصيل الدقيق مع قرى سدوم وعمورة.

ورجوعًا إلى زمننا الحالي فإن العمل أكثر من مجرد وظيفة؛ إنه مصدر للكرامة، والاستقرار، والشعور بالأمان. ومن يكرم موظفيه مراعيًا ظروفهم يكرمه الله في مؤسسته. معترفًا بالإنسانية وهو يرى موظفيه بين سندان غلاء المعيشة، وضيق فرص العمل، ويعلم بأن هذه الوظيفة هي مصدر رزق موظفه الذي اشترى منه وقته وعمره حتى يظل واقفًا على قدميه مُعيلًا لعائلته.

ويستحيل أن يتخذ قرار إنهاء خدمات موظف كمجرد إجراء إداري، لأنه ليس كذلك؛ بل هو حكم بالإعدام لاستقرار أسرة كاملة، وجر للعائل إلى المحاكم والسجون، وغيرها من المصائب التي تتوالى.

التاريخ علمنا أن المجتمعات التي تتخلى عن قيم المشاركة والعطاء سرعان ما تتراجع، وأن من يقطع رزق الآخرين دون نظر إلى ظروفهم إنما يقطع جزءًا من إنسانيته دون أن يشعر، فيعاقبه الله على ذلك في الدنيا قبل الآخرة. وأبسط مثال قرى سدوم وعمورة حين ابتلاهم الله أشد البلاء، فإنهم كانوا مثالًا على قومٍ بدأوا بالخير ثم تراجعوا عنه، فتحوّلوا بعد الكرم إلى البُخل خشية انقطاع مواردهم.

ثم انتهى بهم الحال إلى زوالٍ عجيب بعد أن عاقبهم الله بغلاظة القلب وسحب الرحمة منها. ليست القضية في تفاصيل تاريخهم؛ بل في العبرة: حين تصبح المصلحة المادية أهم من الإنسان، يختل ميزان الحياة.

اليوم، في ظل التحديات الاقتصادية الكبرى، نرى بعض المؤسسات تتخذ قرارات تسريح جماعي أو تصفية حساب فردي دون مراعاة للأثر النفسي والاجتماعي. هذه القرارات مهما كان لها مبررات مالية على الورق تبقى بلا أثر عند الله؛ لأنه هو من يمتلك خزائن الكون أجمع ويُحدد العطاء.

ومن أوجع الناس في ظل أسعار ترتفع، ووظائف شحيحة، والتزامات ثقيلة، وأسر تعتمد بالكامل على دخل فرد واحد، فإنه بالتأكيد قد أغضب الله منه.

وما يغيب أحيانًا عن صُنَّاع القرار هو أن الموظف ليس رقمًا، ولا بندًا في ميزانية؛ بل إنسان ببيته، ومسؤولياته، وأحلامه، وتعبه الطويل. وهو الشخص ذاته الذي ساهم في نمو المؤسسات ونجاحها بعمله. ومن غير المنصف أن يُنسى ذلك كله في لحظة.

الدراسات الاقتصادية الحديثة تؤكد أن المؤسسات التي تحافظ على موظفيها خلال الأزمات تتعافى أسرع، وتكسب ولاءً أعلى، وتحقق استقرارًا أكبر على المدى البعيد. أما سياسات “التخفيف من التكلفة” عبر تسريح الناس، فهي تعطي نتائج عكسية: تتراجع الإنتاجية، وتضعف الجودة، ويزداد تسرب الخبرات، ويتأثر الاسم التجاري ولو بعد حين.

والقرارات الإنسانية ليست رفاهية؛ بل استثمار في قوة المؤسسة نفسها؛ فالرحمة ليست عائقًا أمام النجاح؛ بل هي أساسه. والمنظمات التي تضع الإنسان في قلب سياساتها هي التي تصمد أمام الأزمات حقًا، لأنها تبني ثقة لا تُشترى، وانتماءً لا يُقاس بالأرقام.

إنَّنا اليوم بحاجة إلى أن نتذكر أن مسؤولية المؤسسات ليست فقط تجاه أرباحها؛ بل تجاه المجتمعات التي تعمل فيها، والناس الذين يقومون عليها. وحين نحمي الإنسان، نحمي الوطن، ونحمي الاقتصاد نفسه من الاضطراب.

شاركها.