د. عبدالله باحجاج
نجاح الأشقاء في محافظة المهرة اليمنية في إحباط محاولة إقامة أول مصنع متكامل لإنتاج المُخدرات هو كما وصف بأنه تاريخي ونوعي في آنٍ واحدٍ، وجنَّبوا بلادنا ودول المنطقة عامة واليمن خاصة خطراً غير مسبوق، وفي وقت، ينبغي العلم فيه، أنَّ تهريب المخدرات لم يعد مجرد جريمة عابرة للحدود؛ بل تحوَّل إلى نظام جديد للتهريب أكثر تعقيدًا وتنوُّعًا في وسائل التهريب، ويتم من خلالها الآن إعادة تشكيل تحالفات في المنطقة، وتأسيس طرق تهريب جديدة بعد الأحداث السياسية والأمنية في سوريا ولبنان وإيران، واستغلال ما استجد من عوامل جيوسياسية واقتصادية واجتماعية داخل كل دول المنطقة مع التباين تنتج تداعيات أمنية مستقبلية ستُستغل لا محالة لاستهداف شباب المنطقة، وفي ظل سياسة انفتاحية راديكالية غير محسوبة.
وهنا ينبغي أن تطرح كل دولة خليجية وفي المقدمة بلادنا 3 تساؤلات مهمة؛ هي: كيف لو لم تتمكن السلطات الأمنية في محافظة المهرة مشكورة من إحباط محاولة إقامة المصنع؟ وماذا بعد هذا النجاح المبهر؟ وهل وراء المصنع من أهداف سياسية؟ فالمصنع كان يستهدف إنتاج 45 ألف حبة من الكبتاجون في الساعة الواحدة، و13 كيلوجرامًا من الشبو يوميا، ووراؤه جنسيات متعددة. ومن الواضح أنَّ هذا المصنع كان يهدف لأن يكون أداة لإغراق المنطقة بكميات يومية وسنوية ضخمة، وشلّ قوة الديموغرافيا فيها؛ غنيها وفقيرها، وللأسف أصبح الكثير من الشباب الذين ينتمون لأسر غنية وفقيرة يتعاطون المخدرات أو أنهم من المُروِّجين لها.. الفئة الأولى لكونهم يمتلكون المال دون ضوابط أُسرية، والثانية نتيجة حاجتهم للمال بعد انسداد أُفق العمل وتعقيدات الحياة المعيشية، في مفارقة ينبغي أن تُدرَس ويُوجَد لها حلول سريعة مع التسليم بفرضية العبور الحدودي.
المحاولة الفاشلة للمصنع تكشف لنا أنَّ هناك متغيرات جديدة لشبكات تهريب المخدرات بعد التطورات الأخيرة في المنطقة، خاصةً في سوريا ولبنان وإيران، ومن غير الواضح ما إذا كانت وراءه أهداف سياسية، أو أن البعدين المالي والسياسي يتقاطعان في إقامة هذا المصنع في منطقة المهرة بتقاطعاتها الحدودية مع سلطنة عُمان، وخصوصيات الجغرافيا للدول الخليجية السِت، رغم وجود ما يفُك غموض هذا الارتباط؛ بمعنى تداخل البُعدين المالي والسياسي الآن في إغراق المنطقة بالمخدرات من قِبل قوى منها شبكات تهريب المخدرات، وقوى سياسية واقتصادية إقليمية ودولية للحقبة السياسية الجديدة في الخليج التي يُخطَّط لها دمج الصهاينة في منظومتها الأمنية والعسكرية والاقتصادية. هذا الاندماج لن ينجح إلّا عبر تفكيك أو تشتيت القوة الديموغرافية لكل دولة؛ لذلك سيتم استغلال تحوُّلات دور الدولة في الخليج من الدور الرعائي إلى النيوليبرالي، بعد إضافة جُرعات قَلَبَت أوضاعًا اجتماعية واقتصادية عاليها سافلها، لتصبح الآن مُهيَّأة للاختراقات المختلفة، بما فيها المخدرات.
وسواء تلاقى البُعدان المالي والسياسي في المصنع أم لا؛ فمن المُؤكد أنَّ المُتضرِّر هي دول المنطقة كلها، أي ليست بلادنا وحسب؛ فحجم إنتاجه عابر للحدود، وفي عبوره سيحصد ضحاياه داخل كل دولة؛ فالإنتاج اليومي والسنوي يُغرق المنطقة كلها، ورغم ذلك، نعتبره سابقة خطيرة على حدود بلادنا المتلاصقة مع الجار الشقيق اليمني، رغم ما نُعانيه أصلًا من غزو القات تحديدًا لمُحافظة ظفار، بسبب الحدود المشتركة مع الأشقاء، وبين البلدين ديموغرافيا مشتركة في إطار تعددنا وتنوعنا الديموغرافي، وكَوْن أنَّ فاتورة العلاج والتعافي ستكون علينا ثقيلة نظرًا لمسؤوليتنا الأخوية والأخلاقية والإنسانية تجاه الأشقاء اليمنيين، فإن هذا يدعو الى تعزيز الارتباط الأمني بين عُمان واليمن وتحديدًا مع محافظة المهرة، كما أشار إليها الأخ عوض بن محمد الصيعري في منشور له بعنوان “أمن المهرة اليمنية هو ضرورة لأمن ظفار العُمانية”، وهذا استجلاءٌ عميق يُدركه العارفون بتاريخية هذه المنطقة وأهميتها الجيوسياسية والأمنية والاقتصادية لبلادنا خاصة والخليج عامة، وكذلك حجم التقاطعات الإقليمية على محافظة المهرة في ضوء ما يعيشه الأشقاء في اليمن من حالة عدم استقرار، وفي ضوء أن إحباط إنشاء المصنع يأتي بعدما كشف الادعاء العام في بلادنا عن أكبر 10 قضايا وظواهر سلبية في بلادنا، وفي مقدمتها المخدرات، ودخول عنصر النساء فيها.
هُنا نُكرِّر ما ذهبنا إليه في مقالات سابقة، من أهمية الشراكة المجتمعية، خاصة الرهانات على المبادرة المجتمعية لمكافحة القضايا والظواهر السلبية، وفي مقدمتها القات، والمُبادرات التي قُدِّمَت لصاحب السُّمو السيد محافظ ظفار من نخبة من أبناء المجتمع المحلي؛ حيث إنَّ دور الأسرة والمجتمع يُشكِّل خط الدفاع الأول إلى جانب دور الإعلام وبقية مؤسسات المجتمع المدني في نشر الوعي وبناء بيئة صحية وآمنة تحمي الشباب من الانزلاق في هذه المخاطر، ودورهم كذلك في اندماج المُتعافين الإيجابي بعيدًا عن الوصمة أو العزلة.. إلخ.
والتقاطعات الإقليمية في اليمن بما فيها محافظة المهرة تجعل قضية تأمين داخلنا من المخدرات تتجاوز الثنائية العُمانية اليمينة، وإن كانت تستدعيها من أبواب أخرى؛ كجزء مُهم من الحل، لكنَّ الحل النهائي يكمُن في العمل الخليجي الجماعي، وهنا على كل دولة خليجية أن تعترف بأنَّ الخطر عام، وأنها في سفينة واحدة مع مخاطر المخدرات بمختلف أنواعها؛ لأنها لن تستهدف دولة بعينها دون الأخريات، خاصةً في ضوء ما أكده الدكتور حاتم علي الممثل والمدير الإقليمي لمكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة بدول الخليج، أن المخدرات تُهدِّد الآن منطقة الخليج بشكل يفوق الكثير من مناطق العالم الأخرى.
واستخدام مفردة “الآن” مع ربطها باستهداف دول مجلس التعاون الخليجي، ينبغي أن يستوقف كل عاصمة خليجية لاستشراف الأبعاد والخلفيات، ولا نحصر عامل الزمن هنا في المستوى الاقتصادي للمواطن الخليجي فحسب، وإنما الفقر أيضًا ونموه بعد التحولات المالية والاقتصادية في الخليج التي تأكل الطبقة المتوسطة وتصنع بطالة وتُصعِّب الحياة المعيشية للمواطنين في الخليج مع التباين فالغني والفقير كلاهما مستهدفان لدواعٍ مختلفة، وكذلك “الآن” ليس بسبب الموقع الجغرافي الاستراتيجي للخليج فحسب، وإنما استغلاله الآن بصورة أكبر لتحقيق الأجندات المالية والسياسية والأمنية للنفاذ للداخل الخليجي بسبب تلكم الثغرات المتصاعدة؛ لذلك فالدول الست مطالبة الآن بتقييم وتقويم سياسة إصلاحاتها الجديدة خاصة المالية والاقتصادية.
وعلى الدول الخليجية الست أن تعترف بأنها غير قادرة لوحدها على أن تجعل مجتمعاتها خالية وآمنة من آفة المخدرات بأنواعها المختلفة دون تكاتف جماعي، كما عليها الاعتراف بأن أولوياتها المُستعجَلة تكمُن في انفتاح استراتيجيتها لمكافحة المخدرات (2025 2028) على محيطها الإقليمي، وليس حصريًا على الدول الست لتشكيل جبهة متماسكة محيطة بها ضد المخدرات، خاصة بعد ما قرأنا من عدة مصادر عن هروب شبكات تهريب المخدرات من مناطقها المعروفة بعد التحولات السياسية في سوريا ولبنان. وهنا نقترح إقامة لجنة عُليا بين الدول الست مع دول في محيطها الجغرافي المُتلاصق، وتمكين دور المكافحة والرقابة والتوعية من داخل هذا المحيط، وتفعيلها، وإصدار تقرير سنوي عنها على غرار التقرير العالمي السنوي، مع دراسة تداعيات التحولات الاقتصادية والانفتاح الأيديولوجي والديموغرافي داخل الدول الست وتأثيراته المستقبلية على الاستقرار الاجتماعي والسياسي؛ إذ لا يُمكن أن لا يكون هناك تحليل لهذه التحولات لمعرفة حجم تداعياتها على مستقبل مجتمعاتها من جهة واستقرارها السياسي من جهة ثانية.
ودون هذا الشراكة مع دول المحيط الخليجي، فإنَّ أي دولة لن تكون بمنأى عن المخدرات بأنواعها المختلفة؛ بل العكس قد تصبح المخدرات أداة للحرب الناعمة لا قدر الله وهذا لا يُمكن استبعاده، خاصةً الآن، بعد ما انكشفت قدرات بعض الدول الخليجية الخشنة والناعمة وآفاقها المستقبلية التي يُرى فيها وسيلة ردع مُعتبرة؛ مما يجعل التوجه نحو اختراقها من الداخل خيارًا ممكنًا وسهلًا بعد تلكم التحولات والانفتاحات، ولنا في تجربة الاختراقات الإيرانية وحزب الله وجماعة أنصار الله الأخيرة أفضل النماذج التي يمكن الاستشهاد بها هنا.
لن نخفي هنا توجسًا طاغيًا على تفكيرنا التحليلي، ونطرحه في التساؤل التالي: هل كان من دوافع إقامة المصنع في منطقة شحن بمُحافظة المهرة، وقد كانت شحن منطقة عُمانية قبل ترسيم الحدود بين البلدين، ضرب أو استهداف المنطقة الحرة بالمزيونة العُمانية؟ فالمنطقة الحرة التي أنشأتها الحكومة عام 1999 تمثل البوابة الخليجية لتجارة الترانزيت إلى اليمن وإلى دول شرق أفريقيا عبر اليمن، وتُقدِّم سلطنة عُمان للمستثمرين بمن فيهم اليمنيون تسهيلات متعددة، مثل إعفاء من ضريبة الدخل لمدة 30 عامًا، وعدم الحاجة إلى لتقديم إقرارات الدخل، وإمكانية تملك المستثمر 100% من رأس مال المشروع، والسماح للأيدي العاملة اليمنية بالعمل في المنطقة دون تأشيرات دخول، وإصدار شهادة المنشأ، لذلك، لا يمكن فصل أي أبعادٍ قد تبدو غير مرئية الآن من وراء إقامة مصنع متكامل للمخدرات في “شحن” بمحافظة المهرة.