مدرين المكتومية

قال أحدهم ذات يوم: “لئن يتكرر الألم أفضل من أن تضيع التجربة”، وعلى ما يبدو أن هذه الحكمة صارت اليوم منهجية عمل وديدن المبادرين الوطنيين، ممن لا يزالون ممسكين بزمام الفعل لا انتظار ردته، المستشرفين لآفاق المستقبل بزخم متنامٍ في عقد وتنظيم المؤتمرات والمنتديات والملتقيات الواحد تلو الآخر، في مختلف قطاعاتنا التنموية، مؤملين الوصول لشيء على أرض الواقع، يكفَّ عنهم أسئلة المتفلسفين ممن يدورون بين الأروقة يتهامسون: وماذا بعد؟ وما الجديد؟ نجلس إلى موائد النقاش ونخرج بتوصيات وبالأخير لا ترى النور؟ وبين من يرمسون هنا “تراها لعبة بيزنس”، ومن يهمزون ويلمزون هناك. ورغم سلبية هذا النوع من التفكير، إلا أنَّه إيجابي العدوى في جزئية شديدة الأهمية ألا وهي: فعلا ما مصير كل هذه النتائج والتوصيات والتحليلات والمخرجات التي تتوصل إليها هذه المبادرات؟ وماذا فعلا لو وجدت جميعها الطريق لتغادر حدود التقارير الختامية والبيانات الصحفية إلى فضاءات آليات العمل والمنهجيات الاسترشادية لصُنع القرار؟

فمن المؤكد أن مثل هذه الفعاليات ليست مجرد استعراضات شكلية أو محطات بروتوكولية، بل هي أدوات فكرية ومهنية لصناعة المستقبل، ومنابر حوارية تجمع أصحاب القرار بالخبراء والمعايشين لواقع التجربة، وتفتح نوافذ حيوية لتلاقح الرؤى وابتكار الحلول، خاصة في مرحلة نسعى فيها لتسريع وتيرة التحول وفق أولويات رؤية “عُمان 2040”.

في رأيي.. إنَّ الإشكال الجوهري يتمثل في غياب قناة مؤسسية موحدة تتولى دراسة هذه المخرجات وتبويبها وتحويل ما يصلح منها إلى مقترحات قابلة للتنفيذ، تُرفع إلى الجهات المختصة بحسب الاختصاص، سواء إلى مجلس الوزراء أو مجلسي الدولة والشورى أو الوزارات المعنية.. فتعدُّد الجهات المنظمة في ظل غياب التنسيق والمنهجية الواضحة لإدارة المخرجات، يجعل كثيرًا من التوصيات تذروها الرياح، أو تتكرر من فعالية لأخرى دون تقدم ملموس في بلورتها إلى مشاريع واقعية.

وهنا أتساءل: لماذا لا يتم تشكيل لجنة وطنية عُليا تتبع مجلس الوزراء الموقر، تكون معنية بمتابعة مخرجات المؤتمرات والمنتديات والملتقيات؛ بحيث تضم ممثلين من القطاعات الحكومية والتشريعية والخاصة، وتكون مهمتها الرئيسة دراسة التوصيات، وتقييم جدواها، وصياغتها في صورة مشاريع تنفيذية أو حتى مشاريع قوانين، ومتابعة رفعها ضمن الدورة المؤسسية المعتادة، وربطها بمؤشرات أداء واضحة؟

وهو سؤال يفتح المجال أمام حديث مشروع عن ضرورة إعادة تنظيم المشهد بطريقة أكثر فاعلية، فحين تُفعَّل المخرجات، ستصبح المؤتمرات منصة لتسريع التحول من واقع معاش إلى واقع مأمول، وجسرًا بين الطموح والتنفيذ، خاصة إذا ما تم ربط هذه التوصيات بخطط الوزارات، ومؤشرات الأداء، ومستهدفات “عُمان 2040″، بما يعزز الاقتصاد، ويرفد السياسات العامة بحلول مبتكرة، ويرسخ السمعة الدولية للسلطنة بوصفها دولة حوار وتطوير واستباق للتحديات.. لماذا مثلا لم نملك حتى الآن منصة إلكترونية شاملة لرصد المؤتمرات ومتابعة توصياتها؟ أو دليلًا وطنيًّا منهجيًّا لإدارة المخرجات وتحويلها إلى سياسات؟ وصدقوني سيُحدث ذلك أثرًا إيجابيًّا على أرض الواقع؛ فقيمة المؤتمرات والملتقيات والمنتديات التي تعقد لا تكمُن فقط في خطابات الافتتاح ولا الصور التذكارية، بل فيما هو بعد الحدث: حيث تبدأ رحلة التدقيق والتحليل من أجل التنفيذ؛ وهي الرحلة التي تستحق أن تكون أولوية تنموية بامتياز.

ويبقى لديَّ تساؤل أخير مشروع.. وهو شديد الارتباط بسياق حالة الحراك التي يعيشها القطاع الخاص المبادر بتبني وإطلاق وتنظيم هذا الكم الهائل من الفعاليات النوعية، والتي شئنا أم أبينا فهي تحرك الماء الراكد وتسهم في إثراء النقاش التنموي وطرح مقاربات جديدة لحلحلة التحديات وبلا أدنى شك تتربع جريدة “اخبار عمان” على رأس هرم هذه المبادرات كرائدة لهذا النهج بالأساس والتساؤل هو: متى سنشهد إجراءً تنظيميًّا مُحددًا يضمن توفير دعم مؤسسي حقيقي وفاعل من القطاع الحكومي، يضمن توفير حوافز تنظيمية، أو حتى على الأقل تبسيط الإجراءات وتقديم دعم لوجستي وفني يضمن نجاح هذه الفعاليات وتكاملها مع السياسات العامة للدولة؟ متى؟ إنه مجرد سؤال!

شاركها.