حسين الراوي
على امتداد سنوات طويلة، كتبتُ مقالاتٍ كثيرة في شتى المواضيع، ولم يحدث أن مررتُ بأي مسؤول وهو على رأس عمله إلّا وكان في جعبته إنجازات حقيقية مشرفة تدفعني للكتابة عنه.
لم أكن يومًا من أولئك الذين يمدحون بغير حق، ولا من الذين يُصفِّقون لأسماءٍ لا تحمل رصيدًا من العمل الجاد. أرشيف الصحف في بلدان عدة يشهدُ أنني لم أُجامِل ولم أُزَمِّر؛ بل كنتُ دائمًا أكتب بميزان الإنصاف، لا أذكر إلّا من يستحق الذكر، ولا أضع قلمي إلّا حيث توجد إنجازات تليق بأن تُعرض على رؤوس الأشهاد. ومن هذا المنطلق، أجدني اليوم أمام تجربة مختلفة تستحق أن تُروى عن محافظة ظفار، وعن رجلٍ حمل على عاتقه مسؤولية جسيمة منذ اللحظة الأولى لتوليه مهام منصبه.
أبدأُ اليوم سرد رحلة التنمية في ظفار؛ حيث الواقع يثبت أن الإنجاز وحده هو الذي يستحق أن يُروى ويُذكر. أدركُ تمامًا أن قلمي ليس ملكي وحدي؛ بل هو أمانة أمام قرّائي الذين منحوني ثقتهم على مدى سنوات طويلة. ولذلك، لو حدث أن مدحتُ مسؤولًا في الدولة أو أي رجل متنفذ في أي بلد عربي من دون أن أستند إلى أفعاله الحقيقية وإنجازاته الملموسة، فسوف أضع اسمي المعروف بالمصداقية والصلابة في موقف مُحرج. حينها سيقول القراء: إن حسين الراوي لم يعد كما كان، وإنه فرّط في الحرية الفكرية التي تميز بها، وتنازل عن تلك الثقة التي شيدها عبر مسيرة طويلة من العطاء والكتابة. ولهذا، كنت وسأبقى وفيًا لقاعدة واحدة: لا مدح بلا إنجاز، ولا كلمة تُكتب إلا إذا كانت تليق بضمير الكاتب وتحترم عقل القارئ.
منذ السادس عشر من يونيو 2022، حين صدر المرسوم السلطاني السامي بتعيين صاحب السمو السيّد مروان بن تركي آل سعيد محافظًا لظفار، بدأتْ ملامح مرحلة جديدة تتشكل بهدوء الواثق وخطى العامل الصادق. ثلاثة أيام بعد التعيين، وقف سموه يؤدي القسم، ثم حمل حقيبته واتجه نحو الميدان، كأنما كان يعدّ نفسه لهذه اللحظة منذ زمن بعيد. لم يكن يبحث عن صورة تذكارية؛ بل عن مشهد حيّ يلتقطه الناس في طرقاتهم وبيوتهم وحقولهم.
لم يأتِ المحافظ إلى موقعه محمّلًا فقط بحماسة الشباب ورغبة التغيير؛ بل جاء مسلحًا بخبرة واسعة وتجربة عميقة في ميادين التخطيط والاقتصاد. فقد شغل منصب مدير عام البحوث التنموية في وزارة الاقتصاد، وكان رئيسًا للجنة المشتركة بين المجلس الأعلى للتخطيط (سابقًا) وجامعة السلطان قابوس، كما تولّى رئاسة مجلس إدارة شركة عُمان والإمارات للاستثمار القابضة. وتقلّد مناصب قيادية مبكرة في وزارة الاقتصاد الوطني بين عامي 2001 و2006، ثم أصبح مديرًا عامًا للشؤون الاقتصادية في المجلس الأعلى للتخطيط. هذه التجارب لم تكن مجرد محطات وظيفية، بل شكلت رصيدًا معرفيًا جاء به إلى ظفار، ليترجمها إلى واقع تنموي حيّ يلمسه المواطن قبل أن يقرأه في الصحف.
أول الغيث كان مشروع الغاز “سيب”، الممتد على 208 كيلومترات من هيماء حتى ريسوت بصلالة، بكلفة 76 مليون ريال عُماني. ليس مجرد أنابيب تحت الأرض؛ بل شريان يمد المصانع والمنازل بطاقة متجددة، ويرسم لظفار خريطة اقتصادية جديدة. ثم انبثق حلم آخر في سهول أتين: مشروع “بوليفارد الرذاذ”، على مساحة 470 ألف متر مربع، يضم قناة مائية وحدائق ومركز معارض وفندقًا، باستثمار 40 مليون ريال عُماني. مشروع يُتوقع أن يجذب مليون زائر سنويًا، ويمنح 1500 فرصة عمل، ليتحوّل إلى قلب نابض للسياحة والاقتصاد.
لكن التنمية لم تقف عند الطاقة والسياحة؛ ففي مقشن افتُتح المستشفى الجديد، بتكلفة مليوني ريال عماني، ليختصر المسافات على الأهالي، وفي شليم وجزر الحلانيات أنشئت محطة تحلية بطاقة 1500 م³ يوميًا لتروي عطش القرى. أما خزانات الوقود الاستراتيجية فكانت ضمانة أمان باحتياطي يكفي 30 يومًا بتكلفة 47 مليون ريال عماني. وفي النجد، عادت الحقول لتزهو بالقمح عبر 37 عقدًا لزراعة 28 مليون متر مربع، باستثمارات بلغت 5.5 مليون ريال عماني. هكذا اكتمل المشهد: طاقة تُشعل، ماء يروي، وغذاء يطمئن.
وفي قلب صلالة، انطلقت مشاريع الطرق: تحديث شارع السلطان قابوس والفاروق وتيمور، ونفق عند تقاطع أتين 18 نوفمبر، بملايين الريالات. وعلى الساحل الغربي، تُنجز ازدواجية طريق ريسوت المغسيل بقيمة 35 مليون ريال عماني، بينما تتزين الواجهات البحرية والشواطئ من الحافة إلى الدهاريز والشويمية بمشاريع تنموية جديدة. أما مدينة صلالة المستقبلية، المخطط لها على مساحة 7 كيلومترات مربعة لتستوعب 12 ألف وحدة سكنية ومرافق متكاملة، فهي عنوان واضح أن التنمية هنا لا تفكر في الحاضر فقط، بل في أجيال قادمة.
في يوليو 2024، وقّعت المحافظة برنامج تعاون مع جامعة ظفار، شراكة لم تبقَ حبرًا على ورق؛ بل انطلقت عبر التدريب والتأهيل والبحوث التطبيقية. حتى موظفو البلدية وجدوا أنفسهم أمام برامج للحوكمة والإدارة الذكية، بينما ساهم الباحثون في تطوير حلول واقعية للبنية الأساسية، لتكون الجامعة عقلًا مفكرًا مساندًا للحراك التنموي.
ومع انطلاق مرحلة التنمية، لم يقتصر الحراك على البنية التحتية والاقتصاد؛ بل شمل الثقافة والوعي والأدب والفنون. فظفار اليوم تشهد ميزة جديدة وفرصة أوسع للانتشار والتألق؛ حيث أصبح الحراك الأدبي والثقافي والفني واضحًا وملموسًا. المعارض والندوات والورش الفنية والأدبية ازدادت حضورًا، وأصبح المثقفون والفنانون يجدون مساحات أوسع للتعبير عن أفكارهم وإبداعاتهم. هذا الحراك يعكس روح التجديد والتطلّع، ويجعل ظفار ليست فقط منطقة تنموية، بل مركزًا يزدهر فيه الفكر والفن جنبًا إلى جنب مع المشاريع الاقتصادية والاجتماعية.
ظلَّ صاحب السمو السيّد مروان بن تركي آل سعيد، يؤكد أن التنمية ليست رصف طرق ولا بناء جدران فقط؛ بل هي شراكة بين إنسان وأرض، بين قطاع خاص ومجتمع مدني، بين جامعة ومؤسسة. ومن هنا كانت مبادرات دعم المنتج الوطني عبر حملة “صُنع في عُمان”، وكانت المنتديات الاقتصادية التي جعلت من موسم الخريف فرصة استثمارية بقدر ما هو لوحة طبيعية.
ما تحقق في ثلاث سنوات هو أكثر من مشاريع مُتفرِّقة؛ إنه إيقاع واحد، سيمفونية تنموية تتنقل من الطاقة إلى الماء، من الزراعة إلى السياحة، من الجامعة إلى الطرقات. والمايسترو الذي يقودها يدرك أن ظفار لا تستحق أقل من أن تكون في قلب رؤية “عُمان 2040”. لذلك، حين يسأل الناس عن المنجزات، لن يكتفوا بالأرقام؛ بل سيشيرون إلى ما تغير في حياتهم اليومية: الطريق الذي صار أكثر أمانًا، والماء الذي صار متاحًا، والمستشفى الذي صار قريبًا، والفرصة التي صارت ممكنة. ظفار اليوم، ليست موسم خريف وحده؛ بل موسم ازدهار متجدد، تقوده يدٌ لا تؤمن بالشعارات؛ بل تُصرّ على أن الإنجاز وحده هو الذي يتحدث.
حفظ الله جلالة السلطان المفدّى، الذي بحكمته ووعيه وحرصه تمضي عُمان بخطى واثقة نحو مستقبلٍ أكثر ازدهارًا ورخاء، وحفظ الله الشعب العُماني وأرضه الطيبة المباركة.