د. محمد بن خلفان العاصمي

لا يكاد يوجد شخص في العالم إلّا ويتعاطى مع وسائل التواصل الاجتماعي، فكل شخص يملك حسابًا في أحد هذه التطبيقات ينشُر فيه؛ فهو بكل تاكيد يملك ميزة متابعة ما يحصل في هذه المجتمعات الافتراضية، التي أضحت تربطنا بشكل كبير أكثر من الواقع، وأصبحنا نتواصل من خلالها مع كل الدنيا، بلا حدود أو قيود أو عراقيل، وبات بعضنا يعيش فيها بشكل كامل حتى يكاد ينفصل عن الواقع، ويُخيَّل إلى البعض ممن أدمن هذه التطبيقات وما فيها أن حياته لن تمضي خارج هذا الإطار الافتراضي!

لقد غيَِّرت وسائل التواصل الاجتماعي مفهوم التواصل بشكل كامل، وأعادت رسم الواقع بصورة مختلفة، وشكَّلت العلاقات بين الناس بطريقة مختلفة؛ حيث أخذت هذه التطبيقات الكثير من جوانب الحياة اليومية الممتعة، وجعلت الحياة أكثر جمودًا خاصة في الجانب العاطفي. لقد كان التواصل المباشر والاتصال الواقعي اكثر قدرة على إبراز ملامح العلاقات الاجتماعية بين الناس، وكانت تلك العلاقة نابعة من مشاعر أكثر صدقًا لأنها تَنتج من تواصل واقعي يتطلب جهدًا للقيام به، وليس مجاملة ترسل عن طريق تطبيق معين.

كان للصداقة معنى، وكان للحيرة معنى وهدف، وكان لصلة الرحم شعور وجداني، وواجب إنساني، لكن الآن اختفت كثير من مظاهر التواصل الواقعية لتحل محلها مظاهر التواصل الافتراضي؛ بل لا أُبالغ إن قلت إنَّ بعض أفراد المنزل الواحد لا يلتقون إلّا في مجموعة (البيت المعمور) بعد أن كان اليوم لا يبدأ إلّا من خلال السلام على أفراد العائلة بعضهم البعض، ولا ينتهي اليوم إلّا وهم مُتحلِّقين على مائدة العشاء أو مجتمعين أمام التلفاز يسألون بعضهم عن يومهم وما جرى فيه من أحداث.

لقد ذابت الخصوصية في حياة الناس، واقتحمت هذه الوسائل حياة الأفراد لتعرض تفاصيل التفاصيل؛ بل بات البعض يعرض جميع نشاطاته اليومية من داخل المنزل وغرفه في ما يُعرف بالبث المباشرة، وهي حالة تحتاج إلى دراسة نفسية واجتماعية لمعرفة الأسباب التي تدفع الفرد لعرض حياته الخاصة بكل تفاصيلها على الناس. ويبدو أن ما كُنَّا نراه بعيدًا وما كانت تعرضه القنوات الغربية من برامج “تلفزيون الواقع” وتبعتها بعض القنوات العربية، أصبحنا نشاهده يوميًا في تطبيقات المجتمعات الافتراضية.

ورغم أن هذه المجتمعات الافتراضية سهَّلت التواصل بشكل كبير بين الناس، خاصةً عندما تكون المسافات الطويلة مانعًا وعائقًا للقيام بتواصل مباشر بين الناس، إلّا أن ابرز سلبياتها تكمن فى المبالغة الكبيرة من الكثيرين في استخدامها، حتى في التواصل داخل المنزل أو محيط العمل، وهذا أعطى لهذه الوسائل قدرة على التحكم في سلوكيات الأشخاص وحياتهم حتى من الناحية الصحية؛ حيث قلَّلت الحركة وزادت من الكسل والخمول؛ فالحاجات أصبحت تُقضى بضغطة زر دون الحاجة للذهاب والعودة.

ومع كل هذا التفاعل المُبالَغ فيه مع وسائل التواصل الاجتماعي، ظهرت قضية مصداقية ما يُعرض فيها، وما يُتداول من معلومات وأخبار وصور وأحداث، وهذا الكم الهائل من الأخبار والمعلومات والأحداث بكل تأكيد لن يكون كله صحيحًا، وهذا أمر مقصود ومخطط له؛ فعملية أَدْلَجة الجموع ترتكزُ على مبدأ خلق التأثير بواسطة التعامل مع العقل الجمعي لهم، وذلك من خلال تسلسل ممنهج لعملية بث الأحداث وتوقيتها وقوة تأثيرها، وهذا ما تقوم به وسائل التواصل الإجتماعي.

وحتى لا ينساق المجتمع خلف ما يُنشر، يجب أن يكون هناك عمل مُضاد على مستوى خلق الوعي، من خلال التعليم والأسرة والمجتمع بشكل عام، ومؤسسات المجتمع المدني، حفاظًا على الفرد والمجتمع على حد سواء، وكأفراد ينبغي علينا أن نطبق “نظرية السكين” في تعاملنا مع وسائل التواصل الإجتماعي. ونظرية السكين هي إطار تفسيري فلسفي واجتماعي يقوم على فكرة أن الادوات والتقنيات هي محايدة في ذاتها، بينما يكتسب استخدامها قيمة إيجابية أو سلبية تبعًا لنية الإنسان وطريقة توظيفه لها.

السكينُ هنا تمثل رمزًا لأي وسيلة يمكن أن تكون أداة للبناء أو للهدم، للحياة أو للموت؛ فهي أداة مُهمة لحياتنا اليومية، ولكن في لحظة ما قد تكون أداة جريمة، لذلك وجب الحذر والتعامل بحرص وحكمة وتمحيص وتفكير عميق قبل الاندماج الكلي في هذه المجتمعات التي بات الشر فيها ملازمًا، ومنها تفككت الاسرة ومنها بدأت جرائم عواقبها كارثية، ومن خلالها فقدنا المعنى الحقيقي للحياة الاجتماعية.

شاركها.