عباس المسكري

 

حين أصدرت الحكومة الموقرة قرارها بمنح منفعة عامة لكبار السن، لم تفرق بين منصب وآخر، ولا بين راتب مرتفع أو متدنٍ، فجاء القرار ليكرّس مبدأ التكريم لهذه الفئة التي أفنت أعمارها في خدمة الوطن والمجتمع، هذه المنفعة لم تكن ترفًا، بل كانت سندًا حقيقيًا للعديد من المتقاعدين الذين يتقاضون رواتب بسيطة، ويكابدون متطلبات الحياة اليومية؛ بل إن بعضهم لا يزال يتحمل مسؤولية إعالة الأبناء الصغار وتغطية النفقات الأساسية للأسرة.

اليوم، تعلو بعض الأصوات المطالبة بقطع هذه المنفعة، وتحويلها إلى دعم موجَّه للباحثين عن عمل أو المسرحين من وظائفهم، وبرغم وجاهة الاهتمام بهاتين الفئتين وضرورة معالجة أوضاعهما، إلا أن محاولة إيجاد الحلول على حساب كبار السن تفتقر إلى العدالة الاجتماعية، فملف الباحثين عن عمل والمسرحين هو مسؤولية الدولة، التي أكدت مرارًا التزامها بتهيئة البرامج والسياسات الكفيلة بدعمهم، من دون المساس بحقوق أخرى مُستَحقة.

ثم إننا حين نتأمل المشهد بعمق، نجد أن بعض كبار السن أنفسهم يعيلون أبناء مسرّحين أو باحثين عن عمل، ما يعني أن اقتطاع هذه المنفعة من الوالد ليُمنح جزء منها لابنه لا يحقق الإنصاف المنشود؛ بل إن الإبقاء على هذه المنفعة لكبار السن يخفف في الوقت ذاته عن أسرهم، ويدعم قدرتهم على مواصلة رعاية أبنائهم وأحفادهم، الأمر الذي يعزز من تماسك الأسرة الواحدة ويقوي روابطها في مواجهة التحديات.

وهنا تبرز الحاجة إلى أن تعيد الحكومة النظر في آلية صرف المنفعة العامة للمسرحين من أعمالهم، بحيث تأتي ضمن إطار مستقل وواضح، يراعي ظروفهم الخاصة، ويضمن لهم موردًا كريمًا دون أن يكون ذلك على حساب حقوق كبار الس، إن بناء منظومة دعم متوازنة وشاملة، تُخصّص لكل فئة ما تستحقه وفق احتياجاتها، سيعزز من عدالة التوزيع، ويؤكد مبدأ التكامل بين مختلف فئات المجتمع.

كما إن استمرارية دفع منفعة كبار السن، وصرف الدعم للمسرحين معًا، لن يقتصر أثرها على تخفيف الأعباء المعيشية فحسب، بل سيكون لها مردود اقتصادي إيجابي مباشر على حركة السوق، فهذه المبالغ تُعاد ضَخّها في الدورة الاقتصادية من خلال الاستهلاك اليومي وشراء السلع والخدمات، ما ينعكس نشاطًا تجاريًا وحيوية في الأسواق المحلية، ومن زاوية أخرى، فإن هذه المنفعة تُسهم في إثراء خزينة الدولة بطريقة غير مباشرة عبر ما ينجم عنها من قيمة مضافة ورسوم مدفوعة على الخدمات الأساسية كالكهرباء والماء وغيرها من الرسوم الحكومية، وهو ما يجعلها أداة دعم اجتماعي واقتصادي في آن واحد.

إنَّ منفعة كبار السن ليست مجرد مبلغ مالي يُصرف شهريًا؛ بل هي اعتراف رسمي بما قدموه من جهد وتضحيات، ورسالة وفاء لمكانتهم في المجتمع، كما إنها تمثل مظلة حماية تحفظ لهم كرامتهم في مرحلة عمرية تتطلب رعاية خاصة. الحفاظ على هذا الحق، بالتوازي مع إيجاد حلول مبتكرة ومستقلة للباحثين عن عمل والمسرحين، هو الخيار الأمثل لضمان العدالة الاجتماعية والتوازن الاقتصادي، في إطار من التكامل والتعاون بين الأجيال، فالمعادلة الواضحة تقول إن العدالة الحقيقية لا تتحقق حين نرفع من مستوى المعيشة لفئة على حساب أخرى، وإنما حين نوفر الحماية للجميع، ونرد الجميل لمن سبقونا بالعطاء والتضحيات، والوطن بفضل الله فيه من الخير ما يكفي الجميع، وكلنا أمل بأن المستقبل سيكون أكثر إشراقًا.

شاركها.