د. إبراهيم بن سالم السيابي

 

من أنت؟ أو من أنتِ؟ سؤالٌ بسيط في لفظه، عميق في معناه، لا يجيب عنه الاسم، ولا المهنة، ولا المظهر؛ بل ما تفعله حين لا يراك أحد.

من أنت في بيتك؟ في مجتمعك؟ في دينك؟  من أنت مع اصدقائك؟ في عملك؟ في وطنك؟ بل من أنت مع نفسك؟

أسئلة لا تبحث عن كلمات؛ بل عن أثر، عن بصمةٍ تتركها في قلوب الآخرين قبل أن تُترك على جدران الأيام.

من أنت في بيتك؟

كيف تعامل أسرتك؟ كم من دفءٍ تبثه في زواياه؟ وكم من مودةٍ تزرعها في قلوب من حولك؟

هل بيتك يأنس بك حين تدخل؟ أم يضيق بك المكان؟

هل تبر بوالديك باختك باخيك هل تصل رحمك؟

فأن تكون في بيتك سكنًا يعني أن تكون قلبًا رحيمًا، ووجهًا لا يعرف القسوة، ولسانًا لا يعلو إلا بالحب.

في البيت تُختبر قدرتك على الصبر، وصدقك في العطاء، وإخلاصك في المودة.

فكم من بيتٍ اتسع بكلمة طيبة، وكم من قلبٍ انطفأ لأننا نسينا أن نصغي؟

ومن أنت في مجتمعك؟

كم من الخير تحمله للناس؟ وكم من أثرٍ تتركه بعد مرورك؟

المجتمع مرآة سلوكنا، وميدان أخلاقنا.

أن تكون فاعلًا فيه يعني أن تبذل المعروف دون انتظار، وأن تلتمس العذر قبل أن تُدين، وأن ترى في كل إنسان أخًا لك لا خصمً وأن تجبر الخواطر حين تحتاج الى جبر.

هل تحس بجيرانك تفرح لفرحهم وتتالم لحزنهم ووجعهم؟

فالعظمة لا تُقاس بما تملك؛ بل بما تمنح. فكن جسرًا يُعبر عليه الآخرون إلى الأمل، لا جدارًا يصدّ عنهم النور.

ومن أنت في دينك؟

كيف يراك الله حين تخلو بك الطريق؟

كم من صدقٍ في نيتك؟ وكم من رحمةٍ في قلبك؟

الدين ليس مظهرًا ولا عنوانًا؛ بل خلقٌ وسلوك.

أن تكون صادقًا في دينك يعني أن تنصف من ظلمك، وأن ترحم من ضعف، وأن تكون في الناس كما تحب أن يكونوا فيك.

الإيمان ليس صخبًا في القول؛ بل سكينة في القلب، يشرق في صمتك أكثر من أي كلمات.

 من أنت مع أصدقائك؟

هل أنت رفيق الفرح فقط، أم سند الحزن أيضًا؟

هل تحفظ الود إذا غابوا، وتلتمس العذر إن أخطأوا؟

الصداقة ليست في كثرة اللقاء؛ بل في صدق الشعور، وفي حضور القلب حين يغيب الجسد.

كن لصديقك وطنًا يأوي إليه، لا محطةً يعبرها، فالأصدقاء الحقيقيون قِلّة، ولكن أثرهم لا يُقاس بالعدد؛ بل بالوفاء.

ومن أنت في عملك؟

كم من إخلاصٍ تضعه في مهامك؟ وكم من ضميرٍ ترافق به إنجازك؟

العمل عبادة حين يُؤدى بإتقان، ومسؤولية حين يُحتمل بأمانة.

أن تحب عملك لا يعني أن تخلو من التعب؛ بل أن ترى في كل جهدٍ قيمةً وفي كل يومٍ فرصةً للتعلّم.

اعمل بصمت، فالأثر الصادق لا يحتاج ضجيجًا ليُسمع، ولا تصفيقًا ليُقدَّر، فالله وحده يرى النية قبل الفعل

ومن أنت في وطنك؟

كيف هو حضورك في قضاياه، في قيامك كمواطن  بالواجب في  تطوره، في صورته أمام الأمم؟

الوطن ليس أرضًا فحسب؛ بل هو ذاكرة وواجب وانتماء.

أن تكون ابنًا صالحًا لوطنك يعني أن تبذل جهدك في موضعك، وأن تخلص في عملك، وأن تحب أبناء وطنك وإن اختلفت معهم.

والوطن جزء من الأمة، فحين تتألم أمتك في مكانٍ بعيد، كن صوتًا للرحمة لا صدى للصمت، وامتدادًا للخير لا مرآة للخذلان.

ومن أنت مع نفسك؟

حين يهدأ كل شيء، ولا يبقى إلا صوتك الداخلي، ماذا ترى في مرآتك؟

كم من سلامٍ تصنعه في داخلك؟ وكم من صفحٍ تمنحه لنفسك حين تخطئ؟

أن تكون صادقًا مع نفسك هو أول الطريق إلى الصدق مع الآخرين.

فمن لا يعرف نفسه، لن يعرف طريقه،

ومن لا يغفر لذاته، سيصعب عليه أن يغفر للناس.

صفاء الداخل هو البداية لكل فعلٍ صالح، وبوصلة كل أثرٍ جميل في الحياة.

وفي الختام.. ليست الحياة انتظارًا لمحطة الوصول؛ بل رحلةٌ تصنعها خطاك كل يوم.

لا أحد يملك طول رحلتنا الا الله ، لكن كل واحدٍ منا يملك جمال الحضور فيها.

فلن يُكتب اسمك في الذاكرة لأنك كنت حاضرًا؛ بل لأنك تركت أثرًا جميلاً في قلوب من مررت بهم.

فليس ما نملكه هو ما يخلّدنا؛ بل ما نمنحه من خيرٍ وبسمةٍ وخلقٍ حسن.

من أنت؟ لست ما تقول؛ بل ما تفعل… وما يظل حيًا منك حين ترحل.

كُن النور الذي يضيء طريقًا، وإن لم يُذكر اسمك، وكن اليد التي تزرع خيرًا، وإن لم يُصفق لها أحد، وكُن الإنسان الذي يترك المكان أنقى مما وجده، والقلوب أصفى مما كانت.

شاركها.