الدكتور مجدي العفيفي

(1)

في الفضاء الإبليسي اللاحدودي، حيث الشر لا يقتحم الأبواب، بل يكتفي بإزاحة وتد.. لنقرأ هذه القصة الرمزية.. كان إبليس على وشك أن يغادر أرضًا سكنها طويلًا، لكنه نظر خلفه نظرة أخيرة.. خيمةٌ متواضعة، امرأةٌ تحلب بقرتها، وطفلٌ يلهو بالقرب منها.

لم يكن في المشهد ما يستحق أن يُذكر، لا سلاح ولا خلاف، لا دمعة ولا شتيمة.

ومع ذلك، ابتسم إبليس ابتسامةً شيطانية وقال: “لن أرحل دون أثر”.

اقترب من الوتد الذي رُبطت به البقرة، فحرّكه قليلًا.. ارتبكت البقرة وهاجت، انسكب الحليب، دهست الطفل، صرخت الأم، قَتلت البقرة، عاد الزوج، رأى المشهد، غضب، طلّق، ضرب، اجتمع القوم، اختلطت الدماء…

وبينما الجحيم يُشعل الأرض، جلس إبليس في ظلّ نخلة هامسة وقال:

“لم أفعل شيئًا… فقط حرّكت الوتد”!!!

(2)

من يحرك الوتد؟

ليست القصة عن إبليس وحده، بل عن كل من تسوّل له نفسه أن يلمس وتدًا مستقرًا في أرض غيره، ظانًا أنه مجرد وتد..

لكن الأوتاد، كما في الخيمة، لا تمسك البهائم فقط… بل تمسك التوازن.

في كل مشهد من مشاهد العالم صغيرًا كان أم كبيرًا هناك أوتاد.. وعندما تُحرّك، فإنها لا تتحرك وحدها. إنها تسحب خلفها سلاسل من الأحداث، وأمواجًا من الفوضى.

فدعونا نتأمل الوتد في أبعاده الكبرى…

(3)

الوتد السياسي نار تُوقد من مسمار:

لم تبدأ الحروب العالمية بضربة مدفع، بل بحادثة اغتيال، أو تصريح مستفز، أو قرار مشبوه.

تحريك وتد صغير كأن يُزوّر إعلامٌ حقيقة، أو تُسلّح ميليشيا باسم “الحرية”، يفتح أبوابًا للجحيم.

حين تحرّك القوى الكبرى وتدًا في الشرق الأوسط، أو في إفريقيا، أو في أوكرانيا، فإنها لا ترحل كما جاء إبليس… بل تترك وراءها شعوبًا تنزف، حكومات تنهار، وأجيالًا تتربى في العراء.

(4)

الوتد الاقتصادي المال الذي يهدم بيوتًا:

خفض عملة، رفع أسعار، خصخصة عمياء، أو حتى إشاعة صغيرة عن بنك، وتدٌ واحد في السوق قد يصنع أزمة شاملة تُفقر الملايين.

وما أكثر من حرّكوا أوتاد الاقتصاد، لا ليبنوا، بل لينهبوا، ويتركوا الشعوب تصارع البقاء في خيام من ورق.

(5)

الوتد الاجتماعي الكلمة شرارة النار:

“قالوا عنك كذا”، “هل رأيت ما فعله؟”، نصف جملة، تعبير وجهي، منشور على فيسبوك، كلّها أوتاد قابلة للتحريك.

مجتمع هش، يعيش على حافة الانفجار، لا يحتاج إلى مؤامرة.. يكفيه شخص واحد يشعل الفتنة، والباقي يتكفله اللهيب.

(6)

الوتد الفكري: أفكار تُصلح.. أو تفسد:

فكرة واحدة تُقال في اللحظة الخاطئة قد تهدم عقولًا كانت تنمو.. وكم من شاب سمع عبارة ساخرة من معلمه فتحولت طموحاته إلى رماد.. لكن، على الجهة الأخرى، قد يُحرَّك الوتد ليوقظ.. فليس كل تحريك خرابًا… أحيانًا يكون ضرورة.. فهل أنت ممن يحركون الوتد للخراب، أم تفككه لتبني وعيًا جديدًا؟

(7)

الوتد الديني: بين الجمود والتجديد:

في الدين، الأوتاد أخطر.

من حرّك وتد الفتوى في غير موضعه، أشعل فتنة.. ومن ثبّت وتدًا متحجرًا على حساب الرحمة، طرد الناس من رحاب الدين.. الجمود والتسيب كلاهما إبليسيّ حين يُفقدان الدين روحه.

وتدٌ متروك على حاله قد يمنع نورًا من أن يصل.

وآخر محرّك بجهل، قد يهد أركان الاعتقاد.

(8)

الوتد العاطفي أدقّها وأعمقها:

قد يكون هذا الوتد كلمة في لحظة توتر بين زوجين، نظرة تجاهل بين أم وابنها، صمتٌ في وقت كان الحنان مطلوبًا.

العلاقات لا تنهار فجأة… بل من وتد صغير يتحرّك دون أن يُلاحظ، حتى تسقط الخيمة على رؤوس الجميع.

(9)

لا تكن من الذين يحركون الوتد:

في كل موقفٍ، اسأل نفسك: هل هذه الكلمة ضرورية؟ هل هذا الفعل سينقذ أم يشعل؟ هل هذه الفكرة توقظ أم تربك؟ هل أنا ابن إبليس… أم حارس الوتد؟

(10)

إبليس لا يحمل سيفًا ولا سلاحًا.. هو فقط يحرك الوتد… ويترك الباقي لنا.

فكن من الذين يُثبّتون الخيمة، لا من يخلخلها.

كن من الذين يصمتون حين لا يجدون خيرًا ليقال.

كن من الذين يرممون، لا من يهدمون.

فالشر لا يبدأ من معركة… بل من وتد صغير، ظننّاه لا يُذكر.

(11)

ذكرني بهذه القصة الرمزية، العالم الجليل الدكتور أحمد ربيع الأستاذ بجامعة الأزهر الشريف، العميد السابق لكلية الدعوة الإسلامية في خطبة الجمعة قبل أيام بجامع الشربتلي بالقاهرة الجديدة، وهو من أكثر العلماء استقطابا لجمهور المصلين بسردياته الخطابية الملتحمة بالوجدان العام، فكرا ورؤية وأسلوبية، فله الشكر والعرفان على هذه الومضة التي توقظ الغفلة، وما أكثر الغافلين.. وما أخطر من يحركون الأوتاد.. فهل من مدكر؟).

(12)

وطوال الخطبة التي مرَّت كلمح البصر، وأنا أسقط دلالة هذه الحكاية الإبليسية الرمزية، على الواقع الدامي والدرامي حولنا.. وفينا.. ومنا.. وعلينا.. وأرمق تحديدا عبث «أمريكا» التي اقتلعت الوتد الأول، وراحت تعبث بأوتاد الأرض كلّها.. منذ مائتي عام، ولا تزال، وستظل… رغم أنها دولة جذورها في الهواء!!

ولحديث هذا التدمير الأمريكي وقفة المقال القادم.. إن كان في العمر بقية.

شاركها.